حنا صالح
كاتب لبناني
TT

متى يستقيل المسؤول؟

هل هناك وقت محدد يصارح فيه المسؤول السياسي شعبه، عندما تحاصر الصعوبات حياة المواطنين بشكلٍ لم يكن متوقعاً حتى بالخيال؟ هل يفترض أن يتقدم المسؤول من أهل بلده بالاعتذار فيطلب الصفح والسماح، لأنه لا يتقبل الإذلال اللاحق بهم، وهو من أقسم على الدستور من أجل حمايتهم والدفاع عن حقوقهم؟ وهل هناك لحظة يتجرأ فيها المسؤول ويتعالى على جاه الموقع والمكاسب، فيعلن استقالته، لأنه فشل في إبعاد المعاناة عن شعبه، بل هو من مسببات هذه المعاناة؟
يعني ألا يستحق ما يمر به لبنان يقظة ما؟ بلد بأمه وأبيه أُدخِلَ زمن العتمة الشاملة، وأعادت الأذية المرتكبة بعنجهية كل المواطنين إلى العصر الحجري، ويستهدف السلوك المنفلت قتل الروح عند اللبنانيين وتركهم في العراء يواجهون الموت البطيء!
دعونا نتوقف عند «الإنجازات»! يتمسك الرئيس عون بكرسي الرئاسة معلناً: «لن أستقيل وسأقوم بواجباتي حتى النهاية»! ويأمل عشية السنة الخامسة على رئاسته بدء «مرحلة إعادة إعمار لبنان نفسياً ومادياً»! يتحدث فخامته اليوم عن إعادة إعمار مطمئناً إلى دعم «حزب الانتصارات الإلهية»، ليؤكد بالممارسة اليومية، تمسكه بمحاصصة طائفية لمقاعد الحكومة، في جمهورية انهارت وتلاشت كل مؤسساتها.
انعدام منسوب الأمل لدى المواطنين هو أهم «الإنجازات»، بدليل تجاهل إحصاءات خطيرة تقول إن 77 في المائة من الشباب، يريدون الهجرة فراراً من هذا الجحيم! لم تستوقفه النسبة، كما لم يستوقفه سابقاً كارتل مصرفي سياسي نهب المليارات هي أموال المودعين، بعد السطو على المال العام، ما تسبب في رمي المواطنين إلى المجاعة نتيجة موجة إفلاسات، وتراجع الحد الأدنى للأجور إلى 37 دولاراً! وفي أيامه مواطنان نالا البراءة، بعدما أمضيا 10 سنوات وراء القضبان على ذمة التحقيق، فمن يعوض لهما السمعة وظلامة 10 سنوات، والعدلية بيد فريقه منذ حكومة «القمصان السود» الميقاتية في العام 2011! ورغم مآسي السجون، يحتجز القصر خلافاً للدستور التشكيلات القضائية، ما فاقم خلل العدالة والاهتراء في العمل القضائي!
ورغم التفجير الهيولي الذي دمر بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، واعترافه العلني أنه تبلغ بوجود مستودع الموت قبل أكثر من أسبوعين على التفجير، لم يتحرك لأنه «لا صلاحية له» كما أعلن (...)، لكنه يوالي عرقلة التحقيق، وآخر مواقفه حجب الإذن بملاحقة قائد جهاز أمن الدولة المدعى عليه بالجناية، فيأتي رد الطلب «مستنداً إلى القوانين التي ترعى عمل جهاز أمن الدولة والسلطات الممنوحة له»! أي ممنوع التحقيق مع مدعى عليه بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل التي نجمت عنها إبادة جماعية!
وبين «الإنجازات» ما يتوالى تظهيره؛ باتت المستشفيات بدون لوازم طبية وتفتقر حتى للقطن المعقم، وأصبحت الصيدليات بدون أدوية، والأفران بدون خبز والرغيف سلعة في السوق السوداء! وتفتقر البيوت إلى حليب للرضع، وينام 30 في المائة من الأطفال بدون عشاء، ولا تؤمن عشرات ألوف الأسر الغذاء المطلوب! أما محطات الوقود فقد أصبحت بدون بنزين ولا مازوت، والمحروقات شريان الحياة موجودة في السوق السوداء بأسعار فلكية! حتى إن محاولة استيعاب النقمة التي قام بها الجيش تلافياً لفوضى مريعة زاحفة، سلطت الضوء على واقع التهريب المتفاقم، والتخزين العشوائي، وتبين أن ألوف أطنان المحروقات المصادرة تعود إلى سياسيين وأبنائهم وفروعهم! وكشف الانفجار الإجرامي في بلدة «التليل» في عكار، الذي فحّم 30 شخصاً وأصاب 80 آخرين بحروق أكثريتها خطيرة، أن معظم المحتكرين ينتمون إلى تيارات السلطة وأحزابها الطائفية ويتقاسمون معها الصفقات والأرباح غير المشروعة!
ما اعتبر فخامته كل هذه الانهيارات وفقدان المحروقات ومتطلبات المعيشة مشكلة، فاستمر في التعامي عن التهريب المقونن، وشاعت معطيات عن تعهد فريق القصر لرأس النظام السوري الاستمرار بالدعم بالمحروقات وغيرها من السلع المدعومة، وهو الأمر الذي تنظمه ميليشيا «حزب الله» وتتشارك فيه كارتلات احتكارية سياسية تجمع منظومة الفساد!
هذه «الإنجازات» ما كانت لتتحقق لولا طبقة سياسية أوصلت عون إلى الرئاسة وشاركته السلطة 3 سنوات. هي تركيبة فقدت الحس الإنساني وتفتقر للرؤية الوطنية، تبادلت «الخدمات» والمنافع مع «حزب الله» صاحب الأجندة الإيرانية التي دفعت إلى هذه الانهيارات خدمة لمشروعها لما بعد الانهيار! لذلك ما من مجالٍ لتوقع اعتذار أو صفح، فكيف الاستقالة؟ لذا ما يسود الشارع الغاضب بعد المظاهرة الحاشدة لإسقاط الحصانات، ومقتلة «التليل»، الدعوة لحجر على الطبقة السياسية لإقصائها، بدءاً من نواب عريضة العار التي هدفت إلى تهريب النواب المتهمين، وصولاً إلى الدعوة لإسقاط رئيس الجمهورية، الذي قفز فوق جراح عكار قبل أن تلملم أشلاء ضحايا جريمة الإبادة، بالسعي إلى شيطنتها واتهامها باحتضان «جماعات متشددة»، وكأن مثل هذا التصريح كافٍ للتنصل من المسؤولية!
الثابت أن حالة أشبه بـ«الغرغرينا» ستتعمق، ما يسهل مخطط السيطرة الخارجية، ورغم «إرشاد» نصر الله بأن تؤلف الحكومة فوراً، وعادة مثل هذه الدعوات حمّالة أوجه، فهي لن توقف منحى مبرمج لتلاشي المؤسسات، لأن عين القصر على معركة توريث صهره! رهانه تعميم الفراغ وازدراء حقوق الناس ومطالبهم، لاستغلال أي إمكانية لنسف الانتخابات النيابية وصولاً إلى الرئاسية، عندها يرفض الرئيس عون مغادرة بعبدا، بعدما وُضِعَ لذلك إطار نظري هو رفض الفراغ في الموقع الدستوري والماروني الأول في البلاد!
المكاشفة واجبة والمصارحة حتمية، ولا بديل عن تنظيمات سياسية جديدة تؤسس لقيام جبهة معارضة ملتصقة بالهموم اليومية للناس، تحمل رؤيا للتغيير، تبدأ باستعادة الدولة المخطوفة، ليُستعاد القرار وحكم القانون والدستور، وطي صفحة ممارسات عقيمة أحدثت الإحباط في محطات كثيرة. لا صلة بين المنصات الصوتية والعمل الجبهوي. والبرنامج السياسي الوحيد الجانب الذي يحاذر المسألة السيادية، وحتمية بسط السيادة كاملة، قاصر عن الإحاطة بجوهر الأزمة لإنجاز التغيير. هناك ميزان قوى متحكم، على رأسه «حزب الله» الذي يجمع مستفيدين تابعين ارتهنوا البلد، والمواجهة تفترض بلورة ميزان القوى البديل المعبر عن قوة اللبنانيين وتوقهم للتغيير. ولا مجال لأي رهانات على الخارج، وحده البناء الداخلي يوفر إمكانية الاستفادة من أي معطى خارجي إيجابي. الذين يطلقون مجاناً الدعوة للحياد بدون العمل لإيجاد ركائزه، كما الذين يأملون بدور ما للأمم المتحدة ينتشل لبنان، أمامهم المثال الليبي، والبعض الذي يمم ناحية واشنطن، فالمثال الأميركي في أفغانستان باهر جداً، أما «حزب الله» وكل الفريق الممانع الذي تمكن من اقتلاع البلد من موقعه ودوره وألغى قدراته ومكانته، فقد قدّم للبنانيين المثال الإيراني السافر والكالح على حقيقته!