يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

حفريات تونسية: عبء استعادة الدولة

بالتأكيد لا تبدو المهمة سهلة للرئاسة التونسية المسنودة بتيار جارف وعريض من مختلف قوى الشعب الذين بدا عليهم السأم من السيولة السياسية الضارة، واستقطابات الإسلام السياسي، خصوصاً حزب النهضة الذي كما هو متوقع بدأ في التعامل مع الخطوة التصحيحية الكبرى لاستعادة «الدولة» بطلب الحوار، ثم حين شعر بأن رصيده في الشارع يتلاشى لجأ إلى إرباك الحالة السياسية باللجوء إلى نظرية المؤامرة وسياسة ترحيل الأزمة إلى جهات خارجية.
لفهم ما جرى في تونس التي كانت لدى المراقبين الدوليين الذين يعيشون حالة ارتباك في التعامل مع ما يحدث، كما هو الحال لدول الجوار خصوصاً «ليبيا» المقبلة على انتخابات استقطابية، لا بد من تفكيك ما حدث ضمن سياقه الأولي، وقراءته وفق أدوات حفريات الخطاب السياسي «الأركولوجيا». وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن سردية ما سمي الربيع العربي غير متجانسة منذ بداياتها، حيث تم وبشكل ارتجالي حماسي وضع التجارب في بوتقة واحدة على سبيل الحفاوة والترحيب بالتغيير الهائل، من دون أخذ سياق كل دولة والظروف التي أنتجت الواقع المغاير تحت مصطبة التحليل والقراءة للفاعلين والقوى والشارع والشعارات.
مسألة «التجانس» لدول الربيع العربي كانت الخطأ الأبرز في طرح سردية وهمية وحالمة دعمتها رغبة محمومة من القوى الغربية للتحالف مع لاعبين جدد، وإيجاد بدائل للأنظمة السياسية لدوافع متباينة، ومن هنا يمكن التأكيد على أن ذلك التجانس لم يكن كافياً لإنعاش مؤسسات الدولة من انهياراتها، وبالتالي تبع ذلك انهيارات اقتصادية، ونشوء طبقات انتفاعية من المنتصرين الجدد، خصوصاً من تيار الإسلام السياسي الذي سعى إلى ابتلاع الحالة السياسية مدفوعاً بشعاراته التي لا تصمد أمام صخرة الواقع، وكان خطأ التعامل الدولي في التقييم هو الاتكاء على بروز سلطات سياسية جديدة في المنطقة بقيادات جديدة قادرة على التحشيد وليس إدارة شؤون الدولة، ولذلك لم تسعف المباركة الدولية أو حزمة المساعدات في تجاوز إخفاقات وتحديات الواقع الجديد.
وبات والحال كذلك من نافل القول أن التحولات التي تمر بها الدول التي طالها ما سمي «الربيع العربي» لا تتلاءم مع حجم التدمير الهائل الذي طال بنى السلطة في الداخل، فمع ظهور الأطراف الجديدة في المشهد لم ينعكس ذلك على شكل ونمط وصورة الدولة خارجياً بقدر ما أحدث هزات داخلية أعادت الوضع السياسي إلى شكل حالة ما قبل الدولة أو ما يمكن تسميته «الدولة البدائية»؛ مؤسسات معطلة لا يمكن أن تحييها الشعارات والسيولة السياسية والأحزاب التي تتناسل وتتصارع وتنقسم على ذاتها طمعاً في المزيد من كعكة السلطة.
تعاظم دور الإسلام السياسي وتراجع القوى المدنية بأطيافها المختلفة لا يفسر كل القصة في انهيار الدولة، فهو وإن كان السبب الرئيسي إلا أنه لم يكن الوحيد في تسريع هذا الدمار الذي تشهده البلدان، فهو مثل الغطاء السياسي لابتلاع المشهد، لكن الأزمة تمثلت في أداء اللاعبين الجدد الاقتصادي وضعف تأهيلهم السياسي واكتفائهم باللعب بأوراق ثقلهم الاجتماعي ما وضعهم في مأزق كبير أمام ملفات حاسمة، ومنها الاقتصاد، الملف الأكثر ضعفاً وهشاشة في رؤية الأحزاب الحاكمة في تلك الدول.
على مستوى المقاربة الغربية طوال عقد الربيع العربي الذي تآكلت فيه الدولة ومؤسساتها ببطء، كانت الضغوطات شعاراتية وغير واقعية وفي أحايين كثيرة بشكل ذرائعي براغماتي تستهدف المجال السياسي الدولي بضرورة مراعاة للمعاهدات الدولية والمصالح الغربية وحقوق الإنسان، لكن ذلك أشبه بالمواعظ المجانية التي لا تأخذ طريقها إلى الواقع بسبب عدم إيجاد صيغة سياسية توافقية مع بقية اللاعبين السياسيين.
هذه المقاربة الغربية وابتلاع الحالة السياسية من قبل الفاعلين الجدد من الإسلام السياسي وحلفائهم بسذاجة من قوى اليسار أهدرت الوقت في محاولة تعديل المسار السياسي للسلطة الحاكمة والنخب القديمة التي عانت من مكارثية عقابية، لكن تحالفاتها مع المؤسسات وانفصالها عن التأثير على الاقتصاد والمجتمع ساهم في انهيار التعددية في الفعل والتأثير وإن بقيت بنسبة ضئيلة في المجال السياسي، وهو ما خلق أزمات متفاقمة بسبب حالة الممانعة التي كرستها التيارات المؤدلجة التي كانت تقتات على الدعم الخارجي وهو ما ساهم في انهيار مسألة جوهرية «السيادة» وعدم اختراق قرار الدولة.
بالتالي غابت الرؤية لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في التعامل الأمثل مع دول الربيع والذي كان يمكن أن ينصب على تحسين مناخ الاقتصاد ودعم القطاعات الخاصة لتوفير المزيد من فرص العمل ومحاولة تقديم المشورة في المجالات القانونية والخبرات الطويلة في بناء الشركات والمشاريع، بدل الاكتفاء بالتفرج أو في أحسن الحالات التحول إلى داعم للسلطة القائمة بحجة أنها جاءت عبر الانتخابات.
صحيح جداً وللأمانة أن التحديات الاقتصادية لدول الربيع العربي سبقت الثورات بزمن بعيد، لكن التحولات السياسية الكبرى في تلك الدول لم تستطع الدفع بتلك التحديات خطوة إلى الأمام بقدر ما تراجعت خطوات إلى الوراء في معالجة البطالة، وتشجيع الاستثمار وتعزيز النمو الاقتصادي، والأسوأ أنها رحلت مشكلاتها للخارج وعالجت أزماتها الداخلية بضخ المزيد من الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهو ما خلق معضلة «الانسداد السياسي».
الانسداد السياسي في دول الربيع العربي ومنها تونس هو نتيجة وليس سبباً؛ نتيجة لتعثر الحالة الاقتصادية أكثر من كونه خصومة سياسية بين الفرقاء، والحال أن استمرار هذا التعثر الاقتصادي سيقود إلى أزمات سياسية بعيدة المدى حتى في حال سقوط أو تبدل اللاعبين السياسيين، فالطبقات الكادحة والفقيرة تتأثر بمناخ التضخم وغياب النمو الاقتصادي أكثر بكثير من تأثرها بملف الحريات السياسية، وإذا ما عدنا إلى الوراء أدركنا أن الأنظمة التي توصف بالاستبدادية والتي سبقت دول الربيع العربي حافظت على تحقيق الاقتصاد الكلي وإن كانت قد فشلت في معالجة ملف الفساد أو الإصلاح السياسي.
الأزمة الحقيقية أن حالة الانسداد السياسي التي تعيشها هذه البلدان ستزيد من حيرة وتردد المستثمر الأجنبي الذي لا يمكن أن يثق بنظام سياسي لا يحترم القضاء أو لا يملك نظاماً برلمانياً فاعلاً وقوياً، ومن هنا فالحلول السياسية لا تعني بالضرورة إصلاحاً اقتصادياً، لكن الأكيد أن معالجة الأزمات الاقتصادية ستساهم في إيجاد مناخ ملائم لأي مصالحة سياسية قائمة على التوافق والمشاركة وليس الاستحواذ والمغالبة.
لا يمكن اليوم أن يمرر الخاسرون الذين تنتفض الشعوب ضدهم، وأعني انهيار مشروع الإسلام السياسي في تونس وتبعاته على ليبيا ودول المغرب العربي، فكرة المؤامرة أو اتهام دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية بتبعات فشلهم، على العكس تماماً وقفت السعودية حتى مع بقاء النهضة وذيولها مراراً مع تونس الدولة لضمانة عدم انهيار المؤسسات.
وبعيداً عن الشعارات الواهمة بالعدالة الاجتماعية التي يحذر النهضويون من زوالها بزوالها فإن من المفارقة التأكيد على أن البناء النظري للفكر الاقتصادي لدى الإسلام السياسي يقود إلى رأسمالية متوحشة، وأي عودة إلى برامج الأحزاب الإسلاموية في مجال الاقتصاد تؤكد هذه المحصلة؛ فتلك الخطط والبرامج والمبادرات البدائية والسطحية في فلسفتها تمت ترجمتها بآليات تنفيذ تدفع باتجاه الملكية الخاصة والشركات التابعة للحزب وإثراء العائلات التابعة لقياداته والنماذج كثيرة.
أصوات شباب تونس التي بُحت من أجل «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» هي ذاتها المنقلبة على الذين اختطفوا دولتهم، حيث لم تتحول شعارات من اختطفوا غضبهم إلى أرغفة خبز تكفي الجميع!