مينا العريبي
مساعدة رئيس التحرير السابقة، عملت مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في واشنطن بين عامي 2009- 2011 وهي الان رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشيونال» الإماراتية
TT

حرب أميركا في أفغانستان انتهت... لكن حرب أفغانستان لم تنته بعد

كما كان متوقعاً، تقدم مقاتلو حركة طالبان على قدم وساق في أفغانستان بينما يعلن قياديوهم الفوز تلو الآخر بعد الانسحاب الأميركي من البلاد. صحيح الانسحاب لم يكتمل كلياً، لكن القوات المتبقية، وتعدادها أقل من 600 جندي، بعضها لحماية السفارة الأميركية والباقية تتمركز في مطار كابل، لن تقاتل إلا إذا هوجمت مباشرة. ومقاتلو طالبان أذكى من أن يقوموا بذلك. فطالبان تستعد للسيطرة على أكبر جزء من البلاد عسكرياً ومن بعدها تفاوض الحكومة في كابل، إلا إذا استطاعت أن تتقدم عسكرياً وأن تسيطر كلياً على البلاد من دون مفاوضات سياسية. الأشهر الثلاثة المقبلة في غاية الأهمية في تحديد مسار هذه الحرب، قبل أن يأتي الشتاء ويتوقف القتال حتى الربيع المقبل، حيث يقوم مقاتلو طالبان تقليدياً بشن هجماتهم العسكرية.
حرب أميركا في أفغانستان انتهت، لكن حرب أفغانستان نفسها دخلت منحى جديداً. وبينما تخطط الإدارة الأميركية للإعلان عن انتهاء مهمة قواتها تزامناً مع الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، في الواقع أنها لم تنه المهمة العسكرية، بل غيرتها. فبعد أن كانت الولايات المتحدة قد خططت لبناء دولة مدنية في أفغانستان ومنع طالبان من تولي مقاليد الحكم، اليوم تعلن واشنطن أن مهمتها مختصرة على ضمان عدم استخدام الأراضي الأفغانية لمهاجمتها أو مصالحها. هذا هو جوهر ما اتفقت إدارتا الرئيس السابق دونالد ترمب وخلفه جو بايدن عليه مع قياديي طالبان في مفاوضات دامت لأكثر من عام. ولكنها لم تبال بمستقبل أفغانستان أو حتى المنطقة بعد انسحابها.
شهدت الأسابيع الماضية معارك دامية، تتصاعد يوماً بعد آخر. وفي خطاب أمام البرلمان يوم الاثنين، حمل الرئيس الأفغاني أشرف غني الأميركيين مسؤولية تدهور الأمن في بلاده، قائلا: «السبب وراء الوضع الراهن هو أن القرار (الأميركي للانسحاب) كان مفاجئاً». وأوضح انه قد نبه الإدارة الأميركية بأن الانسحاب «ستكون له عواقب». وبينما لوم غني للإدارة الأميركية فيه جزء من الصواب، إلا أن فشل الحكومات الأفغانية على مدار العقدين الماضيين في إدارة الكثير من المدن والبلدات ادى الى هذا الوضع أيضا. فخارج كابل كانت الاوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية في غاية التعقيد بسبب الفساد وسوء الادارة والتنافس بين السياسيين وتجار الحرب. على سبيل المثال، تصنف منظمة «الشفافية الدولية» أفغانستان على انها من اكثر الدول فساداً، وتصنيفها 165 من 180 دولة يتم رصد الفساد فيها. وعلى الرغم من مليارات الدولارات من المساعدات المخصصة لافغانستان، وثرواتها المعدنية، خاصة من الذهب واليورانيوم والمرمر، يعيش 47.3 في المائة من سكانها تحت خط الفقر.
مآسي الحرب في افغانستان ستتكرر مع الموجة الجديدة من العنف. بلدة تلو الأخرى تسقط بأيدي طالبان، أسماؤها معروفة عند من تابع حروب افغانستان السابقة. هذا الاسبوع، جاءت اخبار عن انتشار مقاتلي طالبان في لشكركاه، وهي عاصمة اقليم هلمند جنوب افغانستان، على حدود باكستان. كانت لشكركاه مركز وجود القوات البريطانية سابقا، وفيها عدد من القوعد العسكرية الافغانية. والقتال في اقليم هلمند ليس جديدا، ولكن في السابق استطاعت القوات الافغانية، بدعم من القوات الدولية، ان تسيطر على المراكز السكنية الرئيسية في البلاد. هذا الامر بات اصعب اليوم.
ومع صعوبة الموقف، وعدم قدرة القوات الافغانية السيطرة على كافة ارجاء البلاد بمفردها، قررت الحكومة الأفغانية ان تختار مناطق معينة للدفاع عنها، وان تترك اخرى. فخلال الاسابيع المقبلة، ستتكاثر الاخبار عن سقوط قرى وبلدات في ايدي قوات طالبان، ولكن ستعمل القوات الافغانية جاهدة على ابقاء سيطرتها على المدن الرئيسية والقواعد العسكرية التابعة لها. طالبان ستزيد من جهودها للسيطرة على مواقع حساسة في البلاد وقد نجحت فعلا في السيطرة على نقاط حدود مع ايران وطاجيكستان وتركمانستان وباكستان. وبينما ستسعى طالبان الى إظهار تقدمها العسكري على انه دليل على شعبيتها الا ان عمليات النزوح الجماعية من اية منطقة تسيطر عليها الحركة المتطرفة تظهر عدم شعبيتها. مقاتلو طالبان يذهبون من منزل الى منزل، الرجال اما يقتلون او يجبرون على القتال مع طالبان، كما يحتكرون المواد الغذائية والمعدات الطبية لمقاتليهم. تقول الامم المتحدة ان خلال العام الماضي زادت نسبة نزوح الافغان 101 في المائة. واجمالي عدد النازحين من جراء القتال يتصاعد يوميا. الاسبوع الماضي، قال مسؤولون افغان ان 22 ألف اسرة فرت من قندهار خلال ايام بسبب المعارك وخوفا من قدوم طالبان.
وبينما يشعر غالبية سكان افغانستان بالخوف من طالبان، يقوم قياديو الحركة الارهابية بمد الجسور دوليا، وهناك من يستقبلهم كرجال دولة على الرغم من انهم لا يهتمون بدولتهم ولا يحترمون سيادتها. من موسكو الى بكين، ذهبت وفود من طالبان لتوصيل رسالة واضحة – انها لا تنوي مهاجمة مصالح خارجية ولكن عازمة على السيطرة الداخلية بأي ثمن.
نية طالبان واضحة من الان، ولكن هناك تجاهلاً دولياً لتصرفاتها. ومهاجمتها لمقر الامم المتحدة في هرات الاسبوع الماضي دليل مقلق على انها لا تحترم اي طرف آخر. لكن المثير أن بعثة الامم المتحدة في أفغانستان اصدرت بياناً يوم الاحد تطالب فيه طالبان بـ«القيام بتحقيق كامل وتزويدها بالاجوبة حول الهجوم على مقر الامم المتحدة في هرات يوم الجمعة الماضي». اي تحقيق تريده الأمم المتحدة؟ هل تتوقع تقريرا مكتوبا من حركة قتالية متطرفة تشن هجمات منذ عقود؟ هذا التجاهل لواقع طالبان سيدفع ثمنه اولا الشعب الافغاني وثانيا أي طرف يسعى لاحياء مبادئ سيادة الدولة والقانون في أفغانستان.