الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

المعرقل الحقيقي لتشكيل الحكومة في لبنان

قوة لا تنبع من ذاتها ولا من اتساع تمثيلها داخل طائفتها، وهو اتساع صار على كل حال موضع شك حسب آخر الاستفتاءات، ولا من إنجازاتها «التاريخية». قوة تأتي من دعم كامل يوفره «حزب الله» للرئيس ميشال عون، وهي باختصار وبالتحديد القوة التي تجعله يقف سداً في وجه محاولات تشكيل حكومة قابلة للعيش وللإنقاذ في حدوده الدنيا، التي لم يعد يطمح اللبنانيون إلى أكثر منها، أي في حدود ملء خزان السيارة بالبنزين، وشراء ربطة خبز وتوفير حبة دواء.
يذهب رئيس حكومة ويأتي آخر. وتزدهر الزيارات والرحلات على الطريق إلى قصر بعبدا، والرئيس «متمترس» خلف المادة 53 من الدستور. من يتولى «العدل» ومن يتولى «الداخلية» ومن يختار الوزراء المسيحيين، في بدعة مسيئة لموقع الرئاسة، تجعل رئيس الجمهورية طرفاً في الصراع السياسي، فيما كان القصد الأساسي من التعديلات في اتفاق «الطائف»، أن تجعله حَكَماً بين الصراعات السياسية. أي، بكلام آخر، أن تجعل موقعه أكثر تحصيناً حيال الحملات السياسية بوصفه فوقها وليس طرفاً فيها.
كلّف النواب الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة، رغم «نصيحة» عون الذي لم يكن يريد الحريري أساساً لهذا المنصب. أمضى الرجل تسعة أشهر تكفي في الظروف الطبيعية لأي حمل طبيعي تعقبه ولادة. انتهت بعبارة وداعية وجهها عون إلى الحريري: «يبدو ما راح نتفق». وها هو الرئيس نجيب ميقاتي يبدأ الآن مسلسل الرحلات إلى بعبدا. ومع أن الرجل متمسك بالتفاؤل وبالصبر، فإن التجارب السابقة مع رئيس الجمهورية لا تبشّر بكثير من التفاؤل، وسبب الشك يتعلق بما إذا كان رجل في هذا العمر المتقدم قادراً على تغيير الطباع التي يحملها منذ أيام شبابه، وخبرها اللبنانيون في كثير من المراحل والتجارب الدموية الصعبة.
خلف «حقوق المسيحيين» يتستر عون في مواقفه المتصلبة من توزيع الحقائب الوزارية وحصة رئيس الجمهورية منها. ومن يدعم عون في الدفاع عن تلك الحقوق؟ ومَن يلجأ إليه النائب جبران باسيل لمساعدته على تحصيلها؟ إنه «حزب الله» وأمينه العام حسن نصر الله الذي كلفه باسيل بأن «يكون مكانه» في حماية حقوق المسيحيين. قال لنصر الله: «نقبل لأنفسنا ما تقبل به لنا». هذا هو الشعار الذي يحتمي به اليوم مؤيدو باسيل و«التيار الوطني الحر» (لاحظ التشديد على كلمة «الحر» في الشعار الذي اعتمده عون وباسيل لحزبهما). يحتمون بـ«حزب الله» لحماية حقوقهم مما يدّعون أنها تجاوزات من قيادات الطائفة السُّنية ورؤساء الحكومات السابقين، بمن فيهم الرئيس نجيب ميقاتي. حزب «ولاية الفقيه» هو الحزب الذي تُناط به اليوم مهمة حماية المسيحيين في لبنان، وهم الذين عاشوا مرفوعي الرأس طوال عمر الاستقلال اللبناني، قبل الحرب الأهلية، بشراكة كاملة مع المسلمين في وطنهم.
هذا هو الدور الذي يلعبه قائد الأوركسترا الطائفية في توزيع الأدوار وقطف المكاسب من الجميع فيما هو يتفرج على صراعاتهم وخلافاتهم السياسية، مدركاً أن حصته من الغنائم لا يجرؤ أحد على المساس بها، ومدركاً أيضاً أن ما تعجز عن توفيره خزائن لبنان، وهي باتت عاجزة فعلاً، يستطيع توفيره من خزائن إيران.
هكذا صار لبنان بلداً يتسابق المرشحون للقيادة فيه إلى كسب رضا «حزب الله». من رئيس الجمهورية الذي تم تعطيل الانتخابات الرئاسية سنتين ونصف السنة لضمان وصوله إلى الرئاسة، إلى رئيس مجلس النواب، الذي صار ذلك المقعد مكرساً له، والآن إلى رئاسة الحكومة حيث صار صوت «حزب الله» هو الصوت الحاسم في توفير أفضل الحظوظ لأحد المرشحين بدلاً من مرشح آخر.
أصبح مقعد رئاسة الحكومة في لبنان مقعداً آخر يتولى «حزب الله» تسويق المرشحين لشغله، وتسهيل فرص نجاحهم في تشكيل الحكومات أو فشلهم في ذلك. من يسميه الحزب، كما حصل مع ميقاتي، أو من لا يعترض على تسميته، كما حصل مع الحريري، هو الذي يصبح المرشح الطبيعي لدخول السرايا. وهكذا صارت رئاسة الحكومة آخر المواقع في ترويكا السلطة اللبنانية التي نجح «حزب الله» في وضع يده عليها، بعدما تمكن من المجيء بمرشحه الرئيس ميشال عون إلى القصر الجمهوري، وأصبح الرئيس نبيه بري فعلياً «الحاكم الأبدي» لمجلس النواب، وها هو رئيس الحكومة المكلف ينتظر الآن ضوءاً أخضر من «حزب الله» ليسهّل تشكيلها، بعدما منح الحزب «صك براءة»، قائلاً إنه يمثل شريحة واسعة من اللبنانيين، ومتجاهلاً الطريقة التي يمسك بها الحزب بمقدّرات هذه الشريحة المغلوبة على أمرها.
يتخفى «حزب الله» في لعب دور المسهّل أو المعرقل، خلف الفيتو الذي يضعه الحليف، الرئيس ميشال عون، متسلحاً بالنص الدستوري الذي ينص على «اتفاق» رئيسي الجمهورية والحكومة على إصدار مراسيم تشكيلها، فيما الهدف الحقيقي هو ضمان احتفاظ الحزب بالهيمنة على البلد بعد الانتخابات النيابية المقبلة، وهو سبب تمسك عون بوزارتي الداخلية والعدل اللتين سيكون لهما دور أساسي في إدارة هذه الانتخابات.
اكتشف الرئيس سعد الحريري ذلك وقال بصراحة بعد اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة إن «حزب الله» كان العقبة الأساسية، ولو أنه كان يريد للحكومة أن تتشكل برئاسة الحريري لكان قادراً على الضغط على رئيس الجمهورية لتسهيل ذلك، والتوقف عن مناوراته «الدستورية». والكل ينتظر الآن مصير تجربة الرئيس نجيب ميقاتي في «معركة الصلاحيات» التي يخوضها مع رئيس الجمهورية.
كل هذا يدفع إلى السؤال: لأي بلد تُشكّل حكومة لبنان، ما دام المايسترو الذي يدير عملية التشكيل معروف الهوية والأهداف؟