سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«برضو مصرية»

كنا نقول في الماضي إن من دون سحر العامية المصرية لن تستطيع أي محكية عربية أخرى عبور الحدود الشائكة. وقد أصبحت المصرية لغة الجميع بكل سهولة لأنها مرفقة بأفضل وأفعل وسائل النقل: الغناء، والمسرح، والسينما، والنكتة، والخطاب السياسي.
كانت المحكيات الأخرى ثقيلة على السمع، وغريبة المفردات. وهات سيادتك اشرح لنا ماذا تعني كلمة «ايستنيه» اللبنانية (الآن)، ولماذا القرد بالعراقية يصبح «الشادي»؟
يقول الأستاذ وجيه وهبة، صاحب المقارنات الثقافية المشوّقة في «المصري اليوم»، إن احتكار العامية المصرية أصبح ملغى، بسبب الوسائل نفسها التي قام عليها: الأغنية والمسرح والمسلسلات. ها هي الأغنية الخليجية في كل مكان، وبعض الأصوات لا مثيل لها. والمسلسل صارت له لهجات كثيرة، وصار له نجوم من كل البلدان. و«اللغا اللبنانيي» التي كانت في حاجة إلى مترجم فوري لفهم بعض كلماتها، جعلتها فيروز أغنية الفترة الصباحية في جميع إذاعات العرب. وتولّت صناعة «الكليب» نقل المعالم اللبنانية الأخرى، مع الغناء أو من دونه. ومع الثياب أو من دونها. لكن الموسيقى ضرورية لمعرفة مكان التصوير.
كان أستاذ الأغنية الكبير محمد عبد الوهاب يقول إن أهم ما في ثلاثي الأغنية: المؤلف والمغني والملحن، هو الأخير. النغم هو الأهم لأنه الأسرع في دخول القلوب والأكثر بقاء في الذاكرة. وأعرف أن فيروز لا تحب هذه النظرية. ففي خلافها مع «الأخوين رحباني» كانت تقول دائماً «مَن مِن الناس يعرف من هو مؤلف أو ملحن أغاني فرانك سيناترا»؟ لكن هذا المنطق لا ينطبق على الجميع. فمن منّا لا يربط صوت أم كلثوم فوراً مع شاعرها وملحنها. ومن لا يُطرب، بعيداً عن الموسيقى، إلى شعر إبراهيم ناجي وأحمد رامي، أو إلى اللحن وحده. أو للصوت وحده. أحياناً أسمع مقطعاً لفيروز من دون مرافقة موسيقية، فأتمنى لو أن جميع أغانيها من دون ألحان. يحمل صوتها من الأوتار ما لا يمكن أن تبلغه آلة. يسامحني أهل الجيل الجديد أن أحب الآلات إليّ في الطقم العربي هي آلة البُزق. منفردة أو متوائمة، وهي عامية الموسيقى، بين الكمان والعود والناي.
أما في فرقة غربية تضم نحو 30 عازفاً، فكيف لك أن تختار: كمن يضعك بين طيور الجنة ويقول لك: من هو طائرك المفضل؟ أي أحاسيس يشعل في مشاعري. أي حنين وأي طرب، وأي فرح وأي حزن، وأي ندم وأي صور، وأي عمر من الأعمار؟ هو سهرة في ضوء القمر أمام البيت الحجري، وأمسية فيها أم كلثوم، وفيروز، و«كمان» أحمد الحفناوي، وبزق غجري، وليه يا بنفسج بتبهج وانتَ زهر حزين.