داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الإفلات من العقاب في العراق... جريمة مضافة

أصبح العراق بعد عام 2003 نموذجاً يُدرس في القانون الدولي والمؤتمرات والمحاضرات والندوات والدراسات في الإفلات من العقوبات سواء على صعيد قوات الاحتلال الأميركي والدول المتحالفة معه أو اختراق الحدود البرية العراقية الشرقية من إيران الملالي أو الحدود البرية العراقية الشمالية من تركيا، أو، وهذا هو الأهم، من قبل الحكومات العراقية التي تعاقبت على السلطة في بغداد تحت تأثير الإرادة الأميركية أو الإيرانية.
وشهد يوم 18 يوليو (تموز) الحالي مسيرات حول العالم في عواصم ومدن أميركية وبريطانية وفنلندية وسويدية وفرنسية وبلجيكية وهولندية وسويسرية وكندية وأسترالية. وتحمل المظاهرات شعار «معاً لإنهاء الإفلات من العقاب United to end impunity ويهدف الناشطون في هذا المجال إلى إصلاح القضاء وتخليصه من عناصر وممارسات الفساد، والكشف عن قتلة المتظاهرين السلميين والناشطين والصحافيين وتسليمهم إلى القضاء، وكذلك الكشف عن مصير المختطفين والمُغيبين قسرياً والقبض على الجناة، وإطلاق سراح المعتقلين بتهم كيدية نتيجة مشاركتهم في الاحتجاجات أو نشاطهم المدني المعارض، وكشف السجون والمعتقلات السرية وإحالة مسؤوليها إلى القضاء، ومحاسبة كل المتورطين في قضايا الفساد وفق القانون.
ودعا القائمون على هذه المسيرات، الأولى والأوسع من نوعها، إلى تنظيم حملة عالمية لإنهاء الإفلات من العقاب ووقف الاغتيالات والخراب والاستنزاف الذي أنهك جميع العراقيين على مدى سنوات طويلة. وسعت المسيرات إلى لفت انتباه العالم إلى أهمية دعم مبادئ العدالة والمحاسبة وتطبيق القانون من أجل الوصول إلى بيئة سياسية اجتماعية واقتصادية تتيح للعراقيين خلق البدائل والحلول المرجوة لبناء بلدهم ووضعه على سكة الاستقرار والازدهار، مؤكدة أن إهمال هذا الجانب الأساسي سيبقي العراق ميداناً للفساد والعصابات والفشل والفوضى والاضطرابات التي بدأت منذ الاحتلال الأميركي وحتى اليوم.
والأهم في هذه المسيرات أنها تؤكد أهمية أن يقف العراقيون دائماً في مقدمة الجهود الدولية، لا على هوامشها، وأن يقودوا بأنفسهم المبادرات المحلية والدولية وتقديم الحلول الحاسمة في إعادة هيبة الدولة ومؤسساتها وتمكينها من محاسبة المتورطين في جرائم القتل والخراب والحرائق والاختطاف والتعذيب ونهب ثروات العراق وتبديد الميزانيات الضخمة في مشاريع وهمية. وقد بات من الضروري أن تتوحد إرادة العراقيين حول قيمة الإنسان وضمان أمنه ومستقبله، ووضع ذلك في مقدمة الأولويات والتركيز على دفع المجتمع الدولي إلى فرض إنهاء الإفلات من العقاب، وهو هدف واقعي وقانوني ومن الممكن تحقيقه إذا ما ظل صوت العراقيين مرتفعاً بحيث يشكل تأثيراً فعالاً يضع حداً لسنوات الفوضى والخراب ومواكب الجنازات.
وأشار فريق الحملة إلى أن المدن التي شاركت في هذه المسيرات هي بغداد وواشنطن (العاصمة) وأوستن وديترويت وسان دييغو وتورونتو وملبورن وباريس ولندن وجنيف ولاهاي ومالمو وكوبنهاغن وهلسنكي وبروكسل ودبلن وأمستردام.
يتم الإفلات من العقاب، وهو جريمة مضافة إلى الجريمة الأصلية، ويجب أن تكون لها عقوباتها الرادعة والحاسمة، ووضع حد لغياب الإجراءات القانونية للقضاء على الانتهاكات، وكذلك تفعيل الأحكام المعطلة بسبب الخضوع لقوى ذات نفوذ أعلى من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
لقد أكد القانون الدولي أن جرائم معينة لا تخضع لأي تقادم في التاريخ ولا يمكن إلغاؤها، بل إن هذا القانون ينص على أن الحصانة التي يتمتع بها زعماء الدول ورؤساء الحكومات تعتبر لاغية بعد تركهم مناصبهم لأي سبب، ويمكن ملاحقتهم قضائياً تحت شروط معينة أمام المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم المحلية. وهذا الأمر يشمل كل المسؤولين العراقيين الذين تلاحقهم اتهامات الفساد المالي أو جرائم الإبادة مثلما حدث في الموصل والأنبار، ولن تحميهم أية دولة أو جنسية ثانية لأن القانون الإنساني يفرض على جميع الدول الالتزام بملاحقة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف باعتبارها «جرائم حرب».
وفي مجال عمل الصحافيين فإن ثمة اتجاهاً إلى اعتبار أن ظاهرة الإفلات من العقاب من أخطر الممارسات التي من شأنها ترهيب الصحافيين ودفعهم إلى عدم القيام بمهامهم الإعلامية. وتبعاً لذلك صدرت توصية من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بأن محاربة الإفلات من العقاب تحتاج إلى مخطط ثلاثي الأبعاد يتمثل في الوقاية والحماية والإحالة إلى القضاء. لقد دفع الصحافيون العراقيون ثمناً غالياً طوال 18 عاماً من الاحتلال الأميركي وتداعياته الدموية، لكن «إفلات المجرمين من العقاب» كان البضاعة الوحيدة التي باعتها الحكومة للصحافيين الضحايا.
الأمر لا يقتصر على العراق والعراقيين، ففي دول كثيرة تبرز هذه الظاهرة غير القانونية للإفلات من العقاب. وفي تقرير صدر عن مجلس حقوق الإنسان بتاريخ 20 فبراير (شباط) 2007 أعده الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تبرز إشارات عن وقائع في دول مثل أفغانستان والبوسنة والهرسك وسريلانكا وكمبوديا وكولومبيا وغواتيمالا والنيبال. ومن الغرابة والصلافة أن إسرائيل التي تنتهك القانون الدولي والإنساني كل يوم لم تقترب منها تقارير الأمم المتحدة حول إفلاتها من العقاب في عدوانها المستمر على الفلسطينيين وهدم منازلهم ومزارعهم وبساتينهم واغتيال شبابهم وأطفالهم ونسائهم علاوة على رجالهم.
وبشأن أفغانستان تركز خطة العمل بشأن السلم والمصالحة والعدل على خمسة مجالات هي الاعتراف بمأساة الشعب الأفغاني، وضمان قيام مؤسسات حكومية تحظى بالثقة وتتحلى بالمسؤولية، والبحث عن الحقيقة والتوثيق، وتعزيز المصالحة والوحدة الوطنية، ووضع آليات للمحاسبة فعالة ومعقولة. وأكد الممثل الخاص للأمين العام في أفغانستان أن عقوداً من انتهاكات حقوق الإنسان خلفت أعداداً كبيرة من الضحايا لا بد من الاعتراف بمعاناتهم واحترام مشاعرهم وعدم السماح للخارجين عن القانون بالإفلات من العقاب.
قد يكون إلقاء اللوم على الخدمات أو بعض المسؤولين فيها عن إفلات المجرمين من العقاب نظراً لطول فترة الفوضى والاضطراب وعدم تطبيق القوانين ما أدى إلى التراخي في ملاحقة المجرمين لمحاكمتهم وتنفيذ الأحكام وتعويض المتضررين، إلا أن المشكلة الأكبر هي مع الميليشيات غير النظامية سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو السودان أو ليبيا أو اليمن أو أفغانستان أو أميركا اللاتينية أو البوسنة والهرسك، إذ إن فرص القتلة واللصوص في الإفلات فعلاً من العقوبات أكثر من المسؤولين الذين يمكن الاهتداء إلى الدول التي تؤويهم أو يمارسون فيها غسل الأموال التي هربوها طوال عقدين.
الأمر ليس بسهولة الكلمات على الورق، فهي جرائم مركبة ومعقدة وشائكة وجماعية وتحت أعلام الدولة أحياناً، وتحت أعلام الميليشيات في أحيان أخرى، وباندفاع شخصي أو طائفي في معظم الحلقات التي تضيع فيها التضاريس.
وعلينا ألا ننسى فرق المرتزقة مثل «بلاك ووتر» التي رافقت قوات الاحتلال الأميركي سواء في العراق أو أفغانستان. فهذه الفرق كانت تتسلى بإطلاق الرصاص الحي على العراقيين في بيوتهم أو في الشوارع العامة، مثلما كانت الدبابات الأميركية تسحق السيارات المدنية بقلوب لا ترتجف لإفساح المجال لمرورها، ولا يهمها أن يكون بداخلها رجال أو نساء أو أطفال. وأذكر لكم أن أسرة من أقاربي كانت تركب سيارتها المدنية نهاراً في طريقها إلى السوق، وأراد سائقها أن يبتعد عن دبابة أمامه ففوجئ بالجندي الخلفي يفتح نيران رشاشته على سيارتهم ويقتل السائق وطفلاً بعمر ست سنوات! كيف أطلق النار على سيارة مدنية في وضح النهار وهو يرى جيداً أنها تحمل سيدة وصغارها؟ إنه الاطمئنان إلى أن الإفلات من العقاب ممكن وسهل لأن القانون الإنساني... ذهب مع الريح.