سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

تحرُّش

الأفضل لبعض القصص أن تروى من بداياتها، من أجل المزيد من الوضوح. جيلنا وزمننا لم يكن يفرّق كثيراً بين مغرب ومشرق. ولم تكن تونس بعيدة أو قريبة من بيروت. وكان بعضنا ضد الحبيب بورقيبة، وبعضنا الآخر يؤيده، كأنما في خلاف محلي. وبالنسبة إليّ كان «المجاهد الأكبر» والنموذج العربي القادم، يشبه نهرو إلى حد بعيد: عاش في سجون الاستعمار وقاتَله، لكنه تبنى من عاداته ما يناسب تونس وشعبها ومستقبلها. ومن ذلك حقوق الناس الإلزامية في التعليم، وحقوق العمال، وحقوق المرأة في الانتماء إلى مجتمع حديث.
وتعرّض مؤسس تونس المستقلة لعداء جهات كثيرة وحملاتها، خصوصاً تخوينها. فقد وصمه البعض بالصهيونية والإمبريالية والاستعمار لأنه دعا إلى قبول قرار التقسيم 1947، الذي يبقي من فلسطين التاريخية أكثر من نصفها، مع تدويل القدس. ثم عاد مهاجموه ومقرّعوه ومخوّنوه فقبلوا ورحبوا باتفاق أوسلو وعروض شمعون بيريس ومسرحياته. هذا لا يعني أن بورقيبة كان وطنياً على حق، لكنه عملياً كان على معرفة، ولما كانت هناك الآن الأراضي المليئة بالمستعمرات والحال الذي آلت إليه.
ترك بورقيبة في الداخل نظاماً جدياً رؤيوياً وبعيداً عن الفساد، وهيكل دولة متكاملة وقابلة للحياة والتطور والطموح إلى الأفضل. ورحب بإقامة مقر منظمة التحرير في تونس، واللهم لا شماتة. كما ترك مجتمعاً مثقفاً عاملاً يبحث عن مصادر اقتصادية في بلد فقير.
زين العابدين بن علي لم يكن بورقيبة، والغنوشي لم يكن أحمد بن صالح والمعارضة الوطنية. كلاهما كان أقل من تونس ومن إرثها الثقافي ومن رؤية بورقيبة. ذروة السقوط كان مشهد على عبير موسي في البرلمان: المرأة ومجلس النواب. حرية القول وحقوق المرأة. هل هذه تونس التي تركها سي الحبيب؟ نائبان يعتديان على نائبتين في بلاد الوسيلة بنت عمار؟
ما أقصى الفارق بين بورقيبة وزين العابدين وبين لوحة الأمس ولوحة اليوم. انظر كم هي بعيدة تونس اليوم، عن بيروت والقاهرة وفلسطين. هل هذه تونس؟ سيدة شجاعة تحتمي بالدستور والقانون وحرمة المرأة، فلا تلقى أمامها سوى رجل جبان عديم الثقافة، كثيف الثرثرة، قليل الذكر؟
تحزن تونس أكثر من سواها. كان التقدم فيها سائراً في كل اتجاه. وكان إرث بورقيبة ضخماً ومتوزعاً. وكانت مثالاً لتزايد الارتقاء نحو المجتمع المنتج والعادل والمتجدد. ثم ظهرت من العتم فجأة هذه المؤشرات العدمية: سُياح يُقتلون في المسابح، وعبير موسي تُضرب وتهان في مجلس النواب، والصورة العامة في تونس تنقلب. اختفت صورة بورقيبة عن الجدران. وفي خوف تنتقل صورة راشد الغنوشي وفي سرية: أليس الشرط الأول للزعامة الوطنية أن تبهر بما حدث، لا أن تنكر ما لا يليق بالحياة الدستورية التي أسسها بورقيبة وتتزعمها عبير موسي اليوم؟