عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.
TT

مصر في مجلس الأمن: لا تسقطوا غصن الزيتون

تابع السياسيون والإعلاميون حديث وزير الخارجية المصري سامح شكري ووزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، وكذلك حديث وزير الري الإثيوبي، أمام مجلس الأمن في نيويورك حول أزمة سد النهضة الإثيوبي، وتحديداً قرار الحكومة الإثيوبية الشروع في ملء سد النهضة في دفعته الثانية. كل طرف قدم رؤيته للأزمة وأبعادها وما سيترتب عليها بالنسبة لبلاده. كانت الجلسة أمام مجلس الأمن أقرب إلى المحاكمة وقدم كل طرف مرافعته دفاعاً عن موقفه. الاختلاف كان واضحاً وكبيراً بين الأطراف الثلاثة المعنية بالموضوع، وهم إثيوبيا والسودان ومصر. الوزير الإثيوبي تحدث عن مشروع سد النهضة الذي تشيده بلاده وتصر على ملئه من منظور أنه مشروع تنموي بحت ولن يلحق أي ضرر يذكر ببلديّ المصب، وأن إثيوبيا تعاني من التخلف والفقر وانعدام قدراتها في مجال الطاقة، ولم تغب لغة الأخوة والجوار والحرص على مصلحة مصر والسودان. وزيرة الخارجية السودانية تحدثت بلغة العلاقات العامة التي ضمنتها جملة من الوقائع والحقائق وحرص بلادها على مسار التفاوض الذي يقود إلى مصلحة كل الأطراف. وزير الخارجية المصري، أسهب في توصيف الأزمة مستعرضاً جهود مصر من أجل الوصول إلى حل يحفظ مصالح كل الأطراف. مصلحة إثيوبيا في التنمية بما لا يلحق ضرراً بدولتي المصب. كلمتان في مداخلة الوزير المصري أمام مجلس الأمن، كانتا ذروة الجمل وحجارة الجبل في القضية. كرر وزير الخارجية المصري كلمتي، (الحياة والوجود) مرات وهو يعرض قضيته أمام أعضاء مجلس الأمن. هاتان الكلمتان هما المبرر الحقيقي لوضع القضية أمام مجلس الأمن.
الأزمة التي يرتفع صوت ناقوسها في أفريقيا ويعبر إلى نيويورك، عنوانها تعبئة سد النهضة الإثيوبي، لكنْ لها نار قد تشتعل في أي وقت وتحرق حبال السلام والاستقرار في القرن الأفريقي وتطال مناطق أخرى في القارة الأفريقية الغارقة في حروب وأزمات تتوالد وتتسع. القضية ليست مجرد خلاف تقني بل هي أزمة أمن وسلام وذاك ما عناه وزير الخارجية المصري عندما كرر كلمتي (الحياة والوجود) بالنسبة لمصر وهما العنوان الحقيقي للأزمة. ماء النيل بالنسبة لمصر يعني وجودها وحياتها والمساومة عليه تتجاوز كل الحسابات والمناورات الكلامية فوق موائد التفاوض في العواصم الأفريقية وغيرها. مداخلات أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين تكررت فيها عبارة التفاوض ودور الاتحاد الأفريقي. كان الجامع تقريباً لتلك المداخلات هو التفاوض والتركيز على دور الاتحاد الأفريقي، وذلك ما ينص عليه الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. بالتأكيد كان أعضاء المجلس وهم سياسيون ودبلوماسيون مهنيون، يدركون بقوة ما ذهب إليه وزير خارجية مصر من أن الأمر يتعلق بالأمن والسلام في المنطقة وليس مجرد قضية تقنية لها علاقة بالتنمية وفقاً للطرح الإثيوبي.
سد النهضة هو مشروع إثيوبي قديم بل كان حلماً وطنياً عبر الزمن والأنظمة السياسية الإثيوبية. برزت فكرة السد سنة 1957 واستمرت تتحرك إلى سنة 1964 حين قام المكتب الأميركي لاستصلاح الأراضي بمسح شامل ودراسة المكان المناسب لإقامة سد على النيل الأزرق في إثيوبيا. توقف المشروع بعد انقلاب منغستو هيلا مريام الذي توجه إلى الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي وتبخر الحماس الأميركي للمشروع. بعد إسقاط نظام منغستو وتولي ميليس زيناوي الحكم توجه نحو أميركا وطرح خطة ضخمة وطموحة للتنمية في إثيوبيا، كانت السدود محور اهتمامه لإنتاج الطاقة وبدأ ببناء سد تنكريزي على نهر عطبرة ثم سد جايب 3 وسدود أخرى لكنها كلها لم تثر مشكلة مع دولتي المصب. المعاهدتان المنظمتان لاستخدام مياه النيل الموقعتان سنتي 1929 و1959 تمنعان أي تمويل دولي لبناء أي سد على النيل إذا اعترضت مصر على ذلك. لجأت إثيوبيا في تمويل سد النهضة إلى التبرعات المحلية والمساعدات الخارجية واستغلت التطورات السياسية في مصر سنة 2011 وحصلت إثيوبيا على مبلغ مليار دولار من تبرعات الإثيوبيين في الداخل والخارج وكذلك قروض من مصارف إثيوبية، ثم بدأت المساهمات من الدول الأجنبية وأولها القادمة من الصين وشاركت مباشرة في بناء السد عبر شركاتها وفي مقدمتها مجموعة جيزهوبا الصينية المملوكة للدولة الصينية وكذلك الفرع الصيني لشركة فويث هيدرو الألمانية لتوريد التوربينات وشركة ويبلد الإيطالية والستوم الفرنسية وأعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لصندوق النقد الدولي لتقديم مساعدة لإثيوبيا بمبلغ 2.9 مليار دولار لدعم موازنتها المالية، وفي سنة 2020 أعلنت الولايات المتحدة استعدادها لاستثمار 5 مليارات دولار في إثيوبيا عبر مؤسسة تمويل التنمية الدولية. معركة سد النهضة لها بُعد دولي واسع؛ فهناك قوى دولية بين حجارة السد وفي خزان مياهه وذلك ما يعطي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد شحنة من الثقة وعنف التحدي لأنه يدرك أن سد النهضة كتلة تحالف للمال الدولي ما يبني له حماية عالمية ضاربة. مصر تدرك كل ذلك من دون شك، لكنها في ذات الوقت تعلم حجم الخطر الذي يشكله المشروع الإثيوبي الدولي على حياتها ووجودها ورسمت خريطة معركتها على الاعتبارين السابقين. تنقل المسؤولون المصريون بين موائد المفاوضات من أفريقيا إلى البيت الأبيض في واشنطن ومجلس الأمن في نيويورك والاتحاد الأوروبي في بروكسل لشرح وجهة النظر المصرية التي تتمحور حول الوصول إلى حل يراعي مصلحة كل الأطراف وفي ذات الوقت يدق ناقوس الانتباه أمام الجميع، محذراً من خطورة التعنت الإثيوبي الذي يمضي في تنفيذ خطوات أحادية لا تلوي على المبادرات المصرية والسودانية والدولية. مصر من دون شك تبحث عن حل سلمي لأزمة سد النهضة، ولكن إذا أصرت الحكومة الإثيوبية على موقفها المتعنت، فستقول مصر للجميع، لقد طرقت كل الأبواب في كل الدنيا بحثاً عن حل يحفظ حقوق الجميع، ولكن للوجود والحياة إكراهات لا يمكن تفاديها في آخر النهار. صوت مصر السياسي كأنه يردد ما قاله الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أمام الدورة التاسعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت في جنيف، (لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي).