مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

عبد العزيز... والمشايخ

لا نجاحَ للنهضة التنموية إلا بنهضة فكرية وإصلاح قانوني، ولا سبيل لذلك إلا بإصلاح ديني واجتماعي.
لم يغفل مهندس الرؤية ومنفذها، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، هذا الأمر، وركَّز على إصلاح المنظومة الدينية والمصفوفات الفكرية، في حواره التلفزيوني الأخير على الشاشات السعودية.
الحال، أنَّ النجل شبيه حقاً بوالده الملك سلمان، وبجدّه عبد العزيز. وسلمان بالمناسبة كان يقول عنه الأذكياء، ومنهم المؤرخ السعودي المرحوم فهد المارك، إنَّه أشبه أنجال عبد العزيز به.
وجه الشبه الخاص الذي نعنيه هنا، هو في قوة العزم ونظافة الضمير وشجاعة الخطوات في هذا الحقل الحساس، الإصلاح، القانوني والديني.
نرجع لحديث التاريخ، ومن أفضل من «علَّامة الجزيرة العربية» المرحوم حمد الجاسر ليحدثنا عنه، في كتيبه الجميل الذي كتبه بمناسبة المئوية الهجرية الأولى لقيام مشروع الوحدة السعودية. يخبرنا الجاسر عنه هذه الحكاية، وهو معاصر للملك عبد العزيز، ووفد عليه أكثر من مرة، بل وتولَّى القضاء في بلدة (ضبا) على ساحل البحر الأحمر بعهده.
أورد الجاسر مثالاً واحداً على هذه الحالة، وهي عن حكم قاضي المدينة المنورة، بصحة عقد إيجار على المذهب الشافعي، بينما كان المتبع في الدولة السعودية هو المذهب الحنبلي.
حكم هذا القاضي قوبل بالتأييد من رئاسة القضاء بالحجاز، برعاية نجله فيصل نائب الملك عبد العزيز حينها على الحجاز، الذي رأى إحالة أوراق القضية كلها على الملك عبد العزيز في الرياض، وبدوره أرسلها لرئيس القضاة والمفتي الشهير، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فكان تعليق الشيخ محمد، المرسل للملك عبد العزيز، حسب نص المؤلف حمد الجاسر بهذا النحو: «حفظك الله، تأملت الأوراق الواردة إليكم من الحجاز في خصوص مسألة إجارة الأرض والشجر بشيء معلوم، التي قد أفتي بها في المدينة، إلى آخر ما يتعلق بذلك. فأما مسألة إبقاء العقود السابقة بحالها واستنئاف العقود بعد ذلك، طبق مذهب الإمام أحمد فلا أرى بذلك بأساً، ولا مخالفة لشيء من أصول الشرع. وأما ما ذكروه في تقريراتهم للمحاكم إنه إذا كان تطبيق العقود على مذهب أحمد فيه مشقة وضرر على الناس أن يبحث فيه من المذاهب الأخرى، فهذا لا أعرف وجهه، ولا يظهر لي جوازه، قال ذاك وأملاه الفقير إلى عفو ربّه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف».
فأمر الملك عبد العزيز بإعادة الأوراق كاملة لفيصل بتاريخ 11 رجب 1353 هجري وتعليقه بالنص: «أحلنا هذه المعاملة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم، ونظر فيها، وقرّر ما ترونه مرفقا لكم. أما رأينا فإنَّ الأحكام التي مثل هذه تكون على مذهب أهل البلد التي فيها الدعوى، سواء كانوا أحنافاً أو شوافعَ، أو غيرهم، وذلك أقنع لهم وأحسن، ولا شك أن المذاهب - ولله الحمد - واحد ولا فيه فرق ولا إشكال، فلاعتماد ذلك وإنفاذه حرّر» (ص40).
لماذا كان المشايخ رغم ورعهم وحرصهم لا يجادلون عبد العزيز إلا بحدود المعقول؟
يجيب المعاصر حمد الجاسر فيقول: «ولكونه (عبد العزيز) أوسع إطلاعاً على أحوال العالم، وأعمق إدراكاً لما تتطلبه المصلحة العامة، فكثيراً ما يتضح له من خلال ذلك ما يحمله على اتخاذ ما يراه، وإن خالف بعض آرائهم، غير إنهم لثقتهم بحرصه على رعاية مصالح الأمة ينصاعون لرأيه، إذ كثيراً ما يتضح لهم صوابه» (ص 37).
نبني كما كانت أوائلنا تبني... ونفعل مثلما فعلوا.