سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فرسان البر وأمراء البحار: كتاب «الرحلة»

حين وصل إلى دلهي، وجد طريقه إلى السلطان محمد تغلق، الذي أسبغ عليه الإجلال والمزيد من الهدايا. وهذا السلطان الذي كان يدلل ضيوفه يوماً ويذبحهم في اليوم التالي، هو نفسه من عيّن ابن بطوطة رئيس قضاته. وبقي المسافر المغربي في دلهي ثمانية أعوام، إلى أن عُيّن سفير السلطان إلى الصين في عام 1342.
وكانت الرحلة إلى الصين محفوفة بالمخاطر والكوارث. فمرافقو ابن بطوطة تعرضوا لهجوم من قبل قطاع طرق عرب عليكرة، حتى إنهم قبضوا على ابن بطوطة نفسه وكادوا يقتلونه. واضطر المسافر إلى أن يتفاوض مع رجال القبائل المتحاربة، ومن بعدها، على ساحل مالابار، غرقت سفينته، وخسر ثروته وكل الهدايا التي كان قد أرسلها السلطان متقلب المزاج معه إلى الإمبراطور الصيني. واستمرت مغامرات هذه الرحلة أيضاً عبر سيلان والمالديف، والبنغال، وأسام، وسومطرة، وأخيراً في الصين نفسها.
وكان ابن بطوطة بارعاً في استرضاء القوّاد، فمعظم رحلاته كانت ضمن مساحات العالم الإسلامي الجديدة والواسعة، حيث استطاع أن يستفيد من مكانته الإسلامية التي كانت تخوّله أن يدخل إلى أي مجلس ملكي يريده. وفي عصر لم يكن يجرؤ فيه كثيرون على السفر من أجل السفر، كان الناس يحتفون بابن بطوطة، ويغمرونه بالهدايا، ويرافقونه باستمرار. ويعود نجاح سفره جزئياً إلى التوقيت الذي اختاره؛ فعباءة الإسلام، التي كانت قد امتدت من جنوب أوروبا إلى الغرب، وإلى الصين من الشرق، سمحت لابن بطوطة بأن يتحرك بسهولة نسبية في أراض لم تكن لتستقبله لو كان مسيحياً.
عاد المسافر العربي إلى المغرب في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1349، واستقبله السلطان أبو عنان في العاصمة فاس. وبعد رحلتين إضافيتين قام بهما ابن بطوطة إلى الأندلس في إسبانيا الإسلامية وإلى صحراء تمبكتو، وعاد أدراجه في عام 1354، طلب منه السلطان أن يكتب مذكرات رحلاته. فشرع في إملائها على الباحث الأندلسي ابن جزي، وقُدمت في كتاب عنوانه: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»؛ «هدية إلى المراقبين المهتمين بغرائب المدن وعجائب الرحلات». ويعرف هذا الكتاب أيضاً بـ«الرحلة» ببساطة، وهو يعدّ من أهم الروايات عن الحياة، والمجتمع، والثقافة، من العالم الإسلامي في القرون الوسطى.
وفي هذا العمل، يصور ابن بطوطة نفسه رجلاً تقياً، يتحلى بالفضائل ولكن لا يخلوا من الإخفاقات، مستعداً لتناول الطعام مع المتسولين والجلوس على موائد الملوك. وأبعد من ذلك؛ يظهر نفسه رجلاً جاهزاً دوماً للانطلاق في أي رحلة وتخطي كل الصعوبات التي قد تعترض طريقه.
عاش ابن بطوطة سنواته الأخيرة بهدوء في المغرب، وحين توفي في عام 1377، دُفن في مدينته طنجة.
إلى اللقاء...