«واحد طار فوق عش الوقواق» تعرّض للنظام وربح العديد من جوائز الأوسكار

يعود إلى صالات السينما بعد 45 سنة على إطلاقه

ميلوش فورمان
ميلوش فورمان
TT

«واحد طار فوق عش الوقواق» تعرّض للنظام وربح العديد من جوائز الأوسكار

ميلوش فورمان
ميلوش فورمان

في الثامن من هذا الشهر، تطرح صالات السينما الأميركية، ولو على نحو محدود، نسخة جديدة مرممة من فيلم «واحد طار فوق عش الوقواق (One Flew Over the Cuckoo‪’‬s Nest) الفيلم الذي أخرجه تشيكي مهاجر اسمه ميلوش فورمان وقام ببطولته جاك نيكولسن مع مشاركة من مجموعة من المواهب التي لا يمكن تفضيل واحدة على أخرى كونهم متساوين في قيمة وطريقة الأداءات التي قاموا به.
يصاحب العروض التجارية للفيلم احتفاء بعض المحطات التلفزيونية المتخصصة في كلاسيكيات السينما (TMC في المقدّمة) بمرور 45 سنة على إنتاج هذا الفيلم الذي حاز على، في عام 1975 على أوسكار أفضل فيلم، وأوسكار أفضل مخرج وأفضل ممثل (نيكولسن) وأفضل ممثلة (لويس فلتشر) وأفضل سيناريو مقتبس (لورنس هوبن وبو غولدمان عن رواية كن كَسي).
- عن «السيستم» ونقده
الأفلام التي نافست «واحد طار فوق عش الوقواق» كانت مشهودة: فيلم ستانلي كوبريك التاريخي «باري ليندن» وفيلم ستيفن سبيلبرغ التشويقي «فك (Jaws) » وفيلم روبرت التمن الموسيقي «ناشفل» وفيلم سيدني لومِت الجنائي «بعد ظهر يوم لقيط» (Dog Day Afternoon). وكل واحد من هذه الأفلام كانت شريكاً في جانب معيّن هو أنه كان ناقداً للمؤسسة إن لم يكن على نحو مباشر، فعلى نحو ملتف يتطلب بعض الإمعان لتحديده.
ففي حين أن فيلم كوبريك الممتاز بحد ذاته رسم علاقة جندي بريطاني وصولي بنظام اجتماعي (في حكاية تقع في القرن التاسع عشر) يوفر، طبقياً، مساعي الوصول إلى القمّة بأي طريقة ممكنة، عرض فيلم سبيلبرغ لمغامرة ضد سمكة قرش قد تكون التعبير النموذجي عن تعايش غير مريح مع «السيستم» المتمثل بحاكم الجزيرة فون (موراي هاملتون) الذي يريد الاستفادة من موسم السياحة بصرف النظر عن مخاطر الحيوان البحري، وبالصيّاد المتمسّك بتقاليد الأمس ومثالياته (روبرت شو).
«ناشفيل» هو اعتناء المخرج روبرت التمن بالفن الغنائي الشعبي البديل مع نقد للمصالح المتداخلة تحت سماء ذلك الفن.
فيلمان من الخمسة كانا تحديداً عن السيستم ومضارعته هما «بعد ظهر يوم لقيط» (آل باتشينو سيحاول سرقة مصرف لكي يتمكن صديقه (جون غازال) من إجراء عملية تحوّل جنسي. الآخر هو «واحد طار فوق عش الوقواق»، الذي كان عن مصحّة للمصابين بعاهات نفسية ترمز مباشرة إلى النظام الأوسع الذي تنتمي المصحّة إليه.
فيلم لومِت ابتزازي غاضب يراوح مكانه على صعيد الحكاية ويمتلئ بالصراخ والبعد عن الواقع كلما كانت التفاصيل مطلوبة لتأييد وجهة نظره. لومِت أحسن استغلال المعارضة بمعالجته الغاضبة التي ليس لديها أكثر من الغضب بحد ذاته. لكن «واحد طار…» كان الفيلم الأمثل بين هذه المجموعة الذي نظر إلى مبدأ السُلطة وما تعنيه لحياة مجموعة من البشر الذين يعيشون داخل المصحّة. هؤلاء مُؤلّفون من فريقين: مرضى وممرضون.
بطل الأحداث هو مكمورفي (نيكولسن) الذي لا يمكن اعتباره مجنوناً لكنه يتصرّف على نحو يجعله محتكاً بالأساليب المتّبعة لترويض تصرفاته العدائية حيال رئيس الممرضين ميلدرد (فلتشر).
هذه امرأة بلا عاطفة تمارس شيئاً واحداً في حياتها هو الإدارة القاسية والعنيفة. كل المرضى سواسية وعليهم جميعاً تنفيذ الأوامر بحذافيرها يساعدها في ذلك الممرض الأسود واشنطن (ناتان جورج). لكن مكمورفي لن يستجيب للأوامر. سيسخر منها. سيواجهها. سيتمرّد عليها وسينال عقابه الذي سيتركه فاقد القدرة على التماسك والقيادة، لكن إلى حين. هذا لأنه لا شيء يجعله طيّعاً. لا حقنات ولا معالجات كهربائية ستقتل روح المقاومة فيه.
بالنسبة لباقي المرضى هو ثائر هو يدرك ذلك ويتصرّف على أساسه في سلسلة من الأحداث التي تنتهي بنصر ولو مؤقت. سيواصل مكمورفي التمرد على «السيستم» وسيساعده في ذلك الهندي الأحمر «تشيف برومدن» (ول سامبسون).
- بطل مختلف
كان ذلك ثاني فيلم لميلوش حققه في الولايات المتحدة. قبل ذلك في الستينات، كان ميلوش رائداً لسينما تشيكوسلوٓكية جديدة وأفلامه الكوميدية والاجتماعية خلال الفترة (من بينها «بيتر الأسود» و«أبحاء الشقراء» وفوت معالجة خارج التقليد الكلاسيكي لأترابه.
في سنة 1968 سنحت له فرصة للسفر إلى باريس وفي باله الترويج لسيناريو فيلم يتم تصويره في الولايات المتحدة. في الوقت ذاته وقعت أحداث «ربيع براغ» فقرر البقاء في باريس ثم غادرها إلى الولايات المتحدة.
حمل ميلوش معه نزعته الانتقادية للنظام. في بلاده انتقد النظام الشيوعي، في أميركا لم يجد أن النظام الرأسمالي أفضل فانتقده في «الإقلاع» (أول أفلامه الأميركية) وفي Hair ولاحقاً في «الشعب ضد لاري فلينت” (The People vs‪.‬ Larry Flynt).
«واحد طار…» كان أفضلها، ولجانب فيلمه التالي «أماديوس» أحد أبرع أفلام السبعينات برمّتها، باستثناء أن فورمان لم يكن بريئاً من سوء النيّة المندثرة تحت رسالة ليبرالية نقادية مناوئة للنظام الذي أراد نقده.
بداية، الرواية التي اقتبسها الكاتبان هوبن وغولدمان كانت مختلفة في أكثر من وجه. ومع أنه من المعتاد أن يختلف الأصل عن الاقتباس وبعض الاختلاف تفرضه الضرورات والعناصر المختلفة لكل عمل، إلا أن ما قام به الفيلم حول البوصلة من اتجاه إلى اتجاه آخر مختلفاً وصولاً إلى مآلاته.
أحد أهم الفروقات يكمن في أن المؤلّف سرد الرواية من وجهة نظر الهندي الأحمر مختاراً بذلك التركيز على أحد أهم المهمّشين في الحياة الأميركية الحاضرة. هو من يسرد الأحداث في الكتاب ويترجم معانيها بناء على ملاحظاته ومواقفه.
بنقل تلك الرؤية لشخصية رجل أبيض من الغالبية وضع الفيلم مسافة مهمّة بين الغاية الأولى وتلك المختارة للفيلم. هنا صار مكمورفي لحالة غضب يرفض فيها أن يكون مجرد ضحية، وهذا موقف لم يتمتع به تشيف برومدن.
على أن هذا الاختلاف ليس عبثياً. لجانب أنه لم يكن هناك ممثل من أهل أميركا الفعليين يستطيع أن يضمن نجاح الفيلم، فإن منح الرجل الأبيض ذلك الموقع الأول يخدم الفيلم ورسالته من وجهة النظر التي أعجبت العديد منا. مكموري هو صرخة اليسار ضد النظام. لكنه أيضاً صرخة بعض اليسار ضد الفيلم بسبب أنه كرّس الحديث عن البطولة البيضاء، خصوصاً أنه لا أحد من تلك الشخصيات البيضاء الأخرى جاورته ثقافة وإدراكاً.
أما الشخصيات الأفرو - أميركية فتجاوز الفيلم تطلعاتها مانحاً إياها تنميطاً متوقعاً. بالنسبة للمشاهد هي سلبية ونمطية. بالنسبة لما كان يمكن إنجازه حولها، فإن سلبيتها تعود إلى أن الوظيفة المسندة إليها تمنحهم قوّة لم يتح المجتمع الأميركي لهم منحهم إياها مما جعلهم خير مخلب للنظام.


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)
سينما «موعد مع بُل بوت» (سي د.ب)

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم.

محمد رُضا‬ (لندن)
يوميات الشرق فيلم «الحريفة 2» اعتمد على البطولة الشبابية (الشركة المنتجة)

«الحريفة 2» ينعش إيرادات السينما المصرية في موسم «رأس السنة»

شهدت دور العرض السينمائي في مصر انتعاشة ملحوظة عبر إيرادات فيلم «الحريفة 2... الريمونتادا»، الذي يعرض بالتزامن مع قرب موسم «رأس السنة».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.