فاي فلام
TT

ارتداء الكمامات ليس ضرورة دائمة

من المعتاد - بناء على المكان الذي تعيش فيه - أن ترى أناسا يركضون أو يركبون الدراجات وهم يرتدون الكمامات الواقية على وجوههم في شوارع المنطقة حيث تعيش. أو ربما تكون أنت ممن يخرجون لممارسة رياضة الجري من دون ارتداء تلك الكمامات الواقية، ثم حدث ما دفعك دفعاً لضرورة ارتدائها. وفي هذه المرحلة الراهنة، يرتدي أغلب الأشخاص الراشدين الكمامات الواقية في الداخل في الأماكن العامة وفي الخارج في الهواء الطلق وفي الأماكن المزدحمة بالناس، بيد أن ارتداء الكمامات الواقية عندما تكون خارج المنزل بمفردك - أو بعيداً عن أي شخص آخر من حولك - صار من مجالات النقاش المحتدمة في الآونة الأخيرة.
ولقد زاد المرشح الرئاسي جوزيف بايدن من حدة الجدل والارتباك الاجتماعي من واقع دعوته في الأسبوع الماضي للحصول على تفويض وطني شامل بضرورة ارتداء الكمامات الواقية في عموم البلاد. وقال بعبارات واضحة لا تحتمل اللبس إن ذلك التفويض من شأنه إنقاذ حياة ما لا يقل عن 40 ألف مواطن أميركي على مدى الشهور الثلاثة الماضيةK إذا ما التزم كافة المواطنين بارتداء الكمامات الواقية في الأماكن العامة طوال الوقت.
ولكن، ليس هذا ما يقول الخبراء المعنيون بالأمر. وذلك لسبب بسيط، أن هناك الكثير من الأدلة الدامغة التي تفيد بأن فيروس «كورونا» ينتقل في المقام الأول داخل الأماكن المغلقة. وذلك هو السبب أيضا في تصريح الدكتور أنتوني فوتشي - وهو مدير المعهد الوطني الأميركي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية - أنه وزوجته يخلعان الكمامات الواقية عن وجهيهما أثناء ممارسة رياضة الجري في الأماكن المفتوحة - ثم يعيدان وضع الكمامات على الأنف والفم فقط، إذا ما اضطرا للمرور بجانب أحد الأشخاص في أي وقت من الأوقات.
بيد أن السؤال: هل من الأفضل منح الإرشادات البسيطة حتى وإن كانت تعني التزام الجانب الأكثر صرامة؟ أم أنه من الأفضل الاستناد إلى الدقة البالغة عن طريق اتباع أفضل الأدلة العلمية المتوافرة حتى الآن بشأن الأنشطة فائقة الخطورة وتلك الأقل خطورة؟ وفي حالة الكمامات الواقية، يرقى الأمر إلى ضرورة ارتداء الكمامات الواقية في الداخل في الأماكن العامة والأماكن المفتوحة فقط عندما لا يمكنك المحافظة على التباعد الاجتماعي لمسافة 6 أقدام مع الناس من حولك.
يقول بيتر ساندمان - وهو مستشار اتصالات المخاطر، إنه يستشعر الحيرة والقلق من تصريحات السيد جوزيف بايدن الأخير بشأن الكمامات الواقية، وقال: «هل أخطأ في الإعراب عن موقفه، عندما قال (في الهواء الطلق) بينما كان يقصد (في الداخل)؟ أو ربما هو أساء فهم الإحاطات التي كان يتلقاها من الخبراء، والذين من المؤكد أنهم أبلغوه أن انتقال فيروس (كورونا) هو مسألة محتملة في الداخل أكثر من كونه يحدث في الخارج في الهواء الطلق؟».
تشير آخر الدلائل بشأن انتشار الفيروس بطريق الرذاذ الجوي إلى أن البيئات الداخلية المغلقة هي المصدر الخطر الأساسي في انتقال الفيروس، إذ إن جزئيات الرذاذ الجوي التي تحمل فيروس «كورونا» تلزم في الأماكن الداخلية لفترة أطول وتتشتت وتتبعثر بسرعة عالية في الأماكن الخارجية المفتوحة. ولقد أفادت الدكتورة جوليا ماركوس - وهي عالمة الأوبئة من جامعة هارفارد، بأنه: «من حيث ما يتعلق بالوقاية الفعلية من انتقال العدوى الفيروسية، فإن أبلغ تأثير على صحتك يكون عندما تكون قريباً للغاية من الناس أو عندما تكون موجوداً لفترة طويلة في مكان مغلق».
ومن شأن ذلك أن يفسر بوضوح عدداً من الدراسات المعنية بتتبع التواصل التي أجريت في آسيا وأوروبا، والتي خلصت إلى أن أغلب الأشخاص المصابين بالفيروس لا يقومون بنقل العدوى الفيروسية إلى أي شخص على الإطلاق، وإنما القليل منهم ينقلون المرض إلى الكثيرين من الناس فيما بات يُسمى علمياً بفاعليات الانتشار الفائق للعدوى. وهذا ما يحدث بصورة أساسية في الأماكن الداخلية المغلقة - وليس على الشواطئ أو ما بين الأشخاص الذين يمشون أو يركضون في الهواء الطلق.
ويقول بيتر ساندمان إن التأكيد على ضرورة ارتداء الكمامات الواقية في الأماكن المفتوحة ليس من الوسائل الجيدة للتواصل بشأن مخاطر انتقال العدوى الفيروسية. وما يزال السؤال المتعلق بمدى فاعلية الكمامات الواقية والظروف المحددة التي يساعد فيها ارتداء تلك الكمامات في الحد من انتشار العدوى الفيروسية من التساؤلات المفتوحة حتى الآن. وعلى المدى البعيد، فمن شأن المبالغة في منافع ارتداء الكمامات الواقية أن يعصف بمصداقية ارتدائها في المقام الأول.
يقول البروفسور مايكل كلومباس - وهو الأستاذ في جامعة هارفارد والطبيب المختص في الأمراض المعدية إن «الدليل على فائدة ارتداء الكمامات الواقية ينبع من مجموعة متنوعة من الاستقراءات»، ومن بينها دراسة حالة لأحد صالونات تصفيف الشعر، الذي لم يشهد انتقالاً مؤكداً للعدوى الفيروسية بين الرواد، وكذلك الدراسات التي أجريت على استخدام الكمامات الواقية داخل المستشفيات، وأيضاً الدراسات ذات الصلة بآليات حجب الرذاذ الحامل للفيروس، وحتى دراسة أخرى أجريت على بعض القوارض.
غير أن البروفسور مايكل كلومباس قد وافق على أن المنافع تكون أكبر عندما تكون المخاطر كبيرة - أي في المواقف التي يكون الناس فيها عرضة للاقتراب من بعضهم البعض لفترة طويلة من الوقت، أو البقاء في الأماكن المغلقة. أما رقم 40 ألف مواطن الذي أشار إليه السيد جوزيف بايدن في تصريحاته الأخيرة إنما يشير إلى تقدير للآثار المترتبة على المطالبة بضرورة ارتداء الكمامات الواقية بالنسبة للعمال الذين يتعاملون مع الجماهير بصفة مستمرة، وليس بالنسبة إلى الأشخاص الذين يخرجون مع حيواناتهم الأليفة أو يخرجون للتنزه في الأماكن المفتوحة.
ومن الممكن أن يؤدي فرض ارتداء الكمامات الواقية على المواطنين على مدار اليوم وطوال الأسبوع إلى تبسيط القاعدة، حيث هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أنه بالنسبة إلى الأنشطة التجارية من شاكلة المطاعم، من المرجح للرواد احترام قواعد السلامة البسيطة بأكثر من ضرورة الالتزام بالقواعد الصارمة المعقدة.
لكن الدكتورة جوليا ماركوس تقول إن تطبيق هذا المنهج على مجريات الصحة العامة في البلاد من شأنه أن يرجع بنتائج عكسية: «أدرك أن غريزة إبقاء الأمور على بساطتها من الأهمية بمكان لدى الجميع، ولكنني أرى في نفس الوقت أننا نلحق المزيد من الضرر بالناس عند الافتراض بأنهم لا يمكنهم الانتباه إلى أو التعامل مع الفروق الدقيقة بين الأمور، فالناس ليسوا أغبياء بالسليقة على أي حال»، وأضافت الدكتورة ماركوس تقول: «يعلم الناس جيداً أنه ليست هناك فائدة حقيقية من مواصلة ارتداء الكمامات الواقية طوال الوقت عندما تكون بمفردك في حديقة أو أثناء التنزه مع الأسرة في مكان مفتوح من المعتاد أن تقضي فيه العائلات أوقات فراغها مع احترام معايير التباعد الاجتماعي المرعية في مثل تلك الظروف. وأعتقد أننا نفرط في المغالاة بشأن التوصيات ذات الصلة بالصحة العامة ونتجاوز ما هو ضروري إلى ما ليس بضروري مع التغافل عن الأدلة المثبتة بالطرق العلمية المعروفة، وعند هذه النقطة سوف نبدأ في الارتباك وفقدان الثقة».
لقد صارت مسألة ارتداء الكمامات الواقية في الأماكن المفتوحة أكثر تسييساً، لأنها ظاهرة للغاية أمام الجميع. وقالت الدكتورة جوليا ماركوس عن ذلك: «صرنا نركز اهتماماتنا على الظاهر فقط من الأمور وصرنا نولي أهمية كبيرة لما يثير غضبنا ويؤجج مشاعرنا. إذ إن رؤية الناس يستمتعون بحياتهم في هدوء بات يميل إلى إثارة حالة غريبة من السخط الأخلاقي لدى فئة معينة من الناس».
ولقد عادت توصيات الصحة العامة القائمة على الافتراضات الأخلاقية الصارمة والمبالغة في التطرف الفكري بنتائج عكسية للغاية في مناطق أخرى حول العالم. وتضيف الدكتورة ماركوس قائلة: «نرى أنه عندما نتيح للناس قدرا من المعلومات الأكثر دقة بشأن المخاطر المحتملة والخيارات ذات الصلة بالبدائل الأكثر أمانا ضمن السلوكيات فائقة الخطورة هو أفضل كثيرا من مجرد كيل الاتهامات أو الإدانات لتلك السلوكيات، عندها فقط نصل إلى النتائج الصحية الأفضل بالنسبة للجميع».
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»