إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

أنف وست عيون

نسمع الرجال يشبّهون المدن بالنساء. واعتاد الأدباء والشعراء وصف عواصم شهيرة بصفات نسائية. لروما سحر صوفيا لورين. وباريس مثقفة ومتحررة مثل سيمون دو بوفوار. والقاهرة تجمع الملائكة والشياطين على طريقة سعاد حسني. وبغداد تتدلّل مثل لميعة عباس عمارة وتراوغ مثل عفيفة إسكندر.
كان كل كاتب من أولئك يبحث في رحلاته عن دلائل معينة وألوان من فتنة الطبيعة التي لا يجد مُعادلاً لها سوى لدى المرأة. مقابل ذلك، لا أذكر أنني قرأت لكاتبة نصاً تشبّه فيه المدن بالرجال. فلا دمشق هي نزار قباني ولا الخرطوم هي الطيب صالح ولا الجزائر هي كاتب ياسين. يحدث أن ترتبط أسماء بعض المدن بأسماء المشاهير الذين ولدوا فيها أو سكنوها وكتبوا عنها، مثل علاقة طنجة بمحمد شكري، والقاهرة بنجيب محفوظ، والإسكندرية بالشاعر اليوناني كفافيس، وجيكور ببدر شاكر السياب. لكن التشبيه الحسّي يبقى بعيداً.
لماذا هذه المقدمة؟ لأن باريس تتناهبها اليوم ثلاث نساء. كل منهن تريد أن تربط خصلة من شعرها بخنصر العاصمة التي توصف بأنها الأجمل في العالم. وهؤلاء الثلاث هن المرشحات اللواتي يتنافسن منذ أشهر على الفوز بمنصب رئيسة البلدية. والنتيجة ستُحسم أواخر هذا الشهر. فمن تكون عمدة باريس: آن أم رشيدة أم آنييس؟ ثلاثة أسماء مؤنثة تخفي وراءها شخصيات جبارة قادرة على تحدي الذكور. ما كان أصدق ناظم الغزالي يوم تساءل في موّال شهير: «من علّم الخَود ضرباً بالنواقيس». والخود هي الآنسة الناعمة التي لا طاقة لساعديها على جرّ الحبل الغليظ للناقوس.
إن باريس ليست أي مدينة. يسمونها مدينة النور. تشغل مساحة تزيد على 100 كيلومتر مربّع. يقيم فيها أكثر من مليوني ساكن. ويقصدها من الضواحي رقم مماثل للعمل فيها خلال النهار. ويزورها 33 مليون سائح في السنة. وتخصص لها الدولة ميزانية تتجاوز 7 مليارات يورو. ويشطرها نهر السين مثل تفاحة ناضجة من نوع «الخد وخد»، كل خد منهما ينافس صاحبه في الجمال. فإذا كمنت القصور العريقة في ضفة النهر اليمنى فإن ضفته اليسرى تتجدد وتتفنن في اجتذاب المفتونين.
سيكون كل هذا الحُسن بين يدي امرأة. والأمر ليس بجديد لأن عمدة باريس الحالية هي آن هيدالغو. مهاجرة إسبانية من بنات الأندلس، دخلت الحزب الاشتراكي الفرنسي وتدافعت بالمناكب حتى جلست على الكرسي الذهبي في قصر البلدية. وهي الآن تخوض معركة الانتخابات لولاية ثانية. وقد يظنّ بعضهم أن النساء أكثر حشمة في المنافسات، لا يلجأن إلى الأساليب الرجالية. لكن بعض الظن إثم. فمعارك السياسة لا تميز بين جنس وآخر. والكل فيها يرتدي «البنطلون». وفي الصراعات الانتخابية يتساوى الجميع في توجيه الضربات القاسية، فوق الحزام وعلى جانبيه، لكي لا نمضي أكثر.
والمرشحة الثانية هي رشيدة داتي. وما أدراك ما رشيدة؟ أبوها مغربي وأمها جزائرية وهي مولودة في فرنسا. كافحت وتدرجت من عاملة في مستشفى حتى أصبحت وزيرة العدل. أي حاملة أختام الجمهورية الفرنسية. وهي اليوم رئيسة لبلدية الدائرة السابعة وتحلم بكل باريس. وقد حلّت رشيدة ثانية بعد آن هيدالغو في الدورة الأولى من الانتخابات. ثم جاء الفيروس وتأجلت الدورة الثانية.
الثالثة هي آنييس بوزان. طبيبة بولونية الأصل، بريئة المظهر، كانت وزيرة للصحة واستقالت لتتفرغ لمعركة باريس. خلعت الصدرية البيضاء وربطتها حول خاصرتها ونزلت إلى المعمعة. فهل على المرأة أن تصبح رجلاً لكي تجد لها موطئ قدم في الغابة؟