عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

مسافة غير آمنة

يوم الأربعاء من أهم أيام أسبوع الأجندة السياسية في أم البرلمانات في وستمنستر، باستثناءات قليلة مثل البيان الوزاري في مناسبات خاصة، أو إعلان الميزانية العامة، التي يقدمها وزير المالية، وهي أيضاً يوم الأربعاء بعد المساءلة الأسبوعية لرئيس الوزراء، والتي تستمر نحو نصف ساعة، وإن كانت امتدت لفترة أطول بسبب عزلة «كورونا» ومشاركة كثيرين إلكترونياً عبر اتصال الفيديو.
أداء رئيس الوزراء بوريس جونسون الأربعاء هذه المرة لم يكن على المستوى المعتاد، بل كان الأسوأ منذ توليه المنصب، وانتهت الجولة المكونة من ستة تبادلات للأسئلة لصالح زعيم المعارضة العمالية السير كيير ستامر (Keir Starmer والراء الوسطى صامتة لا تنطق في اسمه).
الهزيمة في المنازلة البلاغية هي أسوأ ما مر حتى الآن بجونسون وحكومته في أزمة وباء كورونا، التي أثارت كثيراً من التساؤلات حول أداء الحكومة. وقبل عام 1989 عندما بدأ البث التلفزيوني المباشر للجلسات كان يمكن موازنة أثر الأداء السيئ على الرأي العام والناخب، بتسريب معلومات للصحافة، المصدر الأساسي وقتها لما حدث في مجلس العموم للناخب «بتفسير وتحليل» الصحافيين من منصتهم لانطباعهم عن أهم المباريات السياسية الأسبوعية. فكان وقتها يمكن لنواب الحكومة في البرلمان، ومستشاريها في العلاقات العامة إقناع المتعاطفين من الصحافيين بتقليل أثر الصفعات البرلمانية التي تلقاها رئيس الحكومة في الجلسة، فالصحافة نفسها منقسمة بين القبائل السياسية المختلفة، حسب اهتمامات القراء والمشاهدين الذين بلا كسب ولائهم تفلس وسيلة التعبير الصحافي.
وكان احتكار الصحافيين لتفسير ما يجري في مجلس العموم، للعموم، عبر وسائلهم المختلفة، قد بدأ يتقلص في عام 1978 بانطلاق البث الإذاعي للجلسات وللجان البرلمانية، وحتى آنذاك لم يكن هناك اهتمام شعبي كبير بما يدور في وستمنستر إلا للمتابعين والمختصين. لكنه تقلص أكثر مع البث التلفزيوني لأن المشاهدين أنفسهم يستطيعون الحكم بمشاهدة لغة الأجسام وتعبيرات الوجوه وردود فعل بقية النواب، بل يكاد دور الصحافيين ينتهي تماماً بعد انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا يقتصر تقييم أداء النواب والوزراء أثناء الجلسة نفسها على الصحافيين في محيط الـ«تويتر»، بل الجمهور العادي، خاصة الناخبين من دائرة النائب. والأمثلة لا حصر لها عندما يغير رجل السياسة من موقفه وتصريحاته أثناء الجلسة نفسها لأنه بعد كلمته يطلع في تليفونه الذكي على «تويتر» لتغريدة من مراسل صحيفته المحلية في دائرته وردود فعل القراء بشكل سلبي، فيحاول إنقاذ الموقف بإعادة ترتيب كلمات تصريح ألقاه قبل دقائق.
رئيس الوزراء جونسون، طوال حياته السياسية وظف خفة الدم وسرعة البديهة والنكتة، وثقافته الواسعة، والعبارات اللاتينية للتفوق في المناظرات السياسية، خاصة مواجهة زعيم المعارضة السابق، وكان ضحل الثقافة بالمقارنة، بينما نواب الحكومة يدعمونه بصيحات الاستحسان. زعيم المعارضة الجديد محامٍ متمرس، وكان المدعي العام ما بين 2008 و2013. وبأسئلة وكيل نيابة بين يديه الأدلة الجنائية وتقرير الطب الشرعي أضاع على جونسون فرصة النكتة ووضعه في قفص الاتهام، بلا محامٍ يجنبه زلة لسان الاعتراف بالتهمة. بل إن ستامر قصفه بأسئلة لم يطرحها الصحافيون أنفسهم في المؤتمر اليومي الذي تعقده الحكومة في الخامسة مساء حول تطورات مكافحة وباء «كورونا».
استجواب ستامر دار حول قرار الحكومة يوم 12 مارس (آذار) من هذا العام بالتوقف عن إجراء الاختبار الطبي لمعرفة حاملي الفيروس في المجتمع وقصر الاختبار على المستشفيات، واتهم الحكومة بخداع الشعب بعدم دقة تصريحها «بأن دور رعاية العجزة والمسنين والمعوقين محمية من الوباء ومن غير المحتمل أن ينتشر فيها»، فالواقع أن نسبة الوفيات من «كورونا» في هذه الدور زادت عن 40 في المائة، بينما أصر رئيس الوزراء في إجابته على أنها 25 في المائة فقط، فرد زعيم المعارضة بأرقام المصلحة العامة للإحصاء المناقضة لها. واتهمه جونسون بانتقائية اختيار تصريحات الحكومة خارج السياق.
ارتفعت أسهم زعيم المعارضة الجديد ستامر بإرساله خطاباً رسمياً إلى رئيس الوزراء يطالبه بالعودة لمجلس العموم للاعتذار عن تضليله للبرلمان بإجابات مخالفة للأرقام الحقيقية، و«تضليل البرلمان» من أخطر التهم التي يمكن أن توجه لنائب في وستمنستر. كما أعجب المعلقون بطرح ستامر أسئلة لم يطرحها الصحافيون، ويعود إخفاقهم للأسباب نفسها وراء مأزق جونسون في مجلس العموم. حصار «كورونا» ومسافة الابتعاد الاجتماعي التي أبعدت الصحافيين عن الحضور جسمياً في المؤتمر الصحافي اليومي الذي أصبح يقتصر على اتصال الفيديو، مما أعطى الحكومة ورئيس الوزراء فرصة التهرب من أسئلة صعبة. ابتعاد الصحافيين عن قصر وستمنستر وعن التجول في دهاليز السلطة حرمهم بدوره من مصادر مهمة للمعلومات الآنية، وأيضاً من الاطلاع على حسابات توازن القوى بين الكتل المختلفة داخل كل حزب، بما فيها حزب المحافظين الحاكم. وحتى إذا غامر الصحافيون الشباب من الأصحاء، وهو خيار غير متاح لنا عواجيز الصحافة وأصحاب العلل الصحية، بالذهاب إلى مكاتبهم في البرلمان، فإن مسافة الوقاية، وهي متران بين الأشخاص، تحرم الصحافي من إحدى أهم وسائل العمل السياسي البرلماني، وهو تبادل الهمسات الخاصة بين أصدقاء من النواب قد يثق بهم، أو على الأغلب لا يثق بهم، فالهمسات ضرورية حتى ولو كانت لحاجة في نفس يعقوب. والاتصال التليفوني من أماكن العزل الوقائي ليس بديلاً لاستفسارات الهمس التي تتبع تطورات حدثت قبلها بدقائق.
وهي الأسباب نفسها التي جعلت رئيس الوزراء جونسون يبدو يوم الأربعاء كبحار سقط من ظهر السفينة باحثاً عن طوق نجاة. تبادل جونسون النظرات مع وزير الصحة ماثيو هانكوك، الذي جلس على مسافة أمان، غير قادر أن ينقذه بهمسة في أذنه عن الأرقام كالعادة عندما يكون، والوزراء الآخرون، جالسين بجواره كتفاً إلى كتف. نظر جونسون وراءه، فلم يجد النائبة ترودي هاريسون، السكرتيرة البرلمانية الخاصة. جونسون، مثل أي وزير، له سكرتير دائم كمنصب غير سياسي، وسكرتير وزاري كمنصب حكومي. ولأنه لا يسمح لغير النواب المنتخبين بحضور الجلسات، فقد أوجد منصب السكرتير البرلماني، ليشغله عضو منتخب من الحزب نفسه ليحضر الجلسات ويجلس وراء الوزير مباشرة، مسلحاً بملف ضخم بالأوراق والمعلومات ليزوده بها وقت الحاجة. وبسبب الوقاية الكورونية بقيت السيدة هاريسون على مسافة آمنة صحياً وغير آمنة سياسياً، فلم تستطع أن تمرر لجونسون ورقة صغيرة «يغش منها» الإجابة على وابل الأسئلة المحرجة من المحامي ستامر.