أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

الوباء إلى انحسار... والشعبوية أيضاً!

مما لا شك فيه أن جائحة «كورونا» سوف تنحسر ولو بعد حين، وسوف تتمكن مختلف المجتمعات بالتتابع، من وقف انتشارها، لكن تداعياتها وتأثيراتها لن تتوقف، إنْ على المشهد العالمي الراهن وطابع علاقاته السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وإنْ على مستقبل التيارات الشعبوية المتطرفة التي صالت وجالت خلال الأعوام القليلة المنصرمة، وتمكن قادتها من الوصول إلى السلطة في عدد من البلدان.
لقد ذهب كثيرون مع بدء الانتشار السريع لهذا الوباء وما رافقه من اشتغال على الذات وقرارات حمائية منفردة اتخذتها غالبية البلدان تحدوها إجراءات عزل وانعزال، إلى التشكيك في العولمة ومستقبل البشرية كفضاء واحد، وتالياً إلى الانجرار وراء استنتاجات وشعارات شعبوية تطعن في قوة الترابط الإنساني الذي فرضته ثورة الاتصالات وحركة انتقال الرساميل وتدفق المعلومات، لكن مع مرور الوقت ظهر الأمر على العكس تماماً، وبدا أن هذا «الفيروس الأممي» قد أعاد للعالم وحدته وترابط مصائر مجتمعاته، وليس من باب التسرع القول، إن أكثر تأثيراته وضوحاً، ستكون في تعرية سطحية التيارات الشعبوية الحاكمة، بعد فشلها في مواجهة هذه الجائحة وعجزها عن التخفيف من أضرارها.
إذا كان أحد مرتكزات الفكر الشعبوي هو رفضه لمبادئ حقوق الإنسان وتسعير العنصرية وشيطنة الآخر المختلف عرقياً أو دينياً واستثارة غرائز الخوف والكراهية ضده، بما في ذلك ازدراء قيم المساواة والتسامح والاحترام، فإنه ليس مثل وباء «كورونا» ما جعل البشر متساوين أمام العدوى والموت، بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو قوميتهم، وإذا تذكرنا روح العداء ضد اللاجئين الهاربين من أتون العنف التي وسمت شعبويي أوروبا، وحملة الكراهية ضد المهاجرين المكسيكيين والمسلمين والأقليات العرقية والإثنية التي لا تزال تتحكم بسياسات الرئيس الأميركي، يصح القول إنه لم يعد ثمة دافع لحشد الناس وتعبئتهم على أساس الخوف من الآخر في ظل تفشي فيروس أعمى لا يميز بين البشر. وإذا أضفنا الدور الكبير الذي لعبته وتلعبه وسائل التواصل الاجتماعي خلال فترة التباعد والعزلة، حيث أتيح لمئات الملايين، الوقت والإمكانية لمتابعة ما يحدث من مآسٍ تجاه أي كان وفي كل مكان، يمكن أن نفسر التراجع اللافت في الخطاب الشعبوي التحريضي ضد الآخر، مقابل تقدم مشاعر التضامن بين الشعوب، وكيف بات البشر يشفقون على حالهم ووحدة معاناتهم ويتعاطفون مع مصابهم كما مع مصاب إخوتهم في الإنسانية.
من جهة أخرى، ساهم هذا الوباء في تعرية موقف الشعبويين السلبي من المنطق والمعرفة واستهتارهم بالتحذيرات العلمية حول خطورة فيروس «كورونا»، الأمر الذي تسبب في تأخر عدد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة، عن اتخاذ تدابير ناجعة لمكافحته، ما خلف مزيداً من الخسائر كان بالإمكان تلافيها، فكيف الحال وقد فرض انتشار هذا الوباء أولوية دفع البحث العلمي والمحاكمة العقلية إلى مركز الاهتمام، مساهماً في تراجع الخطاب الشعبوي الذي طالما اشتغل على غرائز الناس وتوسل ما طاب له من الخرافات والأساطير والأوهام، والقصد أن الحقائق والاستنتاجات العلمية فضحت بدورها التيارات الشعبوية التي اعتمدت على تصريحات متناقضة وسطحية مضللة أو على نظرية المؤامرة أو البعد الديني الغيبي في تفسير جائحة «كورونا»، ما اضطر بعض قادتها للتراجع عن سذاجة ما صرحوا به سابقاً، وهنا لا يمكن لأحد أن ينسى تصريح رئيس الوزراء البريطاني عن هذا الوباء وما قد يخلفه من ضحايا وذلك في حديثه عن مناعة القطيع وخيار البقاء للأقوى؟! أو نسيان اضطراب أداء الرئيس الأميركي وتناقض مواقفه في فهم وتفسير انتشار الفيروس، إنْ بمسارعته للتخفيف من خطورة آثاره، وإنْ بإطلاقه وعوداً خلبية عن وجود دواء ناجع لمعالجته أو لقاح يقي الناس منه، ثم دعوته أخيراً لاستخدام المطهرات المنزلية للنيل منه، وقبلها وبعدها، تكرار تحميل غريمته الصين، بصفتها موطن الوباء، مسؤولية ما يجري، لتبرير عجزه وتأخره عن اتخاذ خطوات جدية لوقف هذه الجائحة؟!
ربما كان من الصعب من دون هذا الوباء التمعن في آليات اتخاذ القرار والتعامل مع الأزمات، وكشف وجوه التشابه الكثيرة، وبخاصة العقلية الاستئثارية، بين النظم الشمولية كالصين وإيران وغيرها والنظم الديمقراطية المحكومة بقادة شعبويين مثل الولايات المتحدة، تلك العقلية التي تمنح الأولوية لمصالح السلطة الضيقة والأنانية وهمومها الاقتصادية، ولا تثق، كما ينبغي، بمواطنيها وقدراتهم على المساعدة في حماية حيواتهم وصحة مجتمعاتهم، بل لا يهمها سوى الاستعراض وإظهار فرادتها مهما تكن الآلام والتضحيات، ولا تغير هذه الحقيقة بل تؤكدها المبالغة في انتقاد التقصير والتباطؤ في التعاضد الأوروبي كحالتي إسبانيا وإيطاليا، أو حملة الترويج المغرضة للدولة المركزية والاستبدادية، عبر نموذج الصين، على أنها الخيار الناجح، في مواجهة هذا الوباء وغيره، ثم استثمار بعض الحكومات الشعبوية، كتركيا والمجر، المخاوف الناجمة عن تفشي الفيروس، لتشديد قبضتها القمعية ومحاصرة الهوامش الديمقراطية والتحرر من سلطة القانون والمؤسسات.
رغم تفاوت خسائر البلدان الغربية التي ضربها الوباء، واختلاف أداء حكوماتها لمواجهة انتشاره، فإن المشهد يشير إلى عيوب كبيرة في روابطها وبنيتها، وإلى تراجع مقومات التعاون والتعاضد فيما بينها لمواجهة هذه المحنة، وإلى تباينات في أنظمتها الصحية، وإلى نقص أو ضعف العدالة الاجتماعية ووضوح التفاوت الطبقي، ما يفسر شدة الأضرار في المجتمعات التي تراجعت فيها الخدمة العلاجية والصحية المجانية أو الميسرة لعموم الناس، وكذلك سرعة انتقال هذا الوباء بين المعوزين وفي المناطق الفقيرة.
إن الضربة الموجعة التي تلقتها التيارات الشعبوية بسبب جائحة «كورونا»، لن تكون مجدية ومفيدة، من دون معالجة المظالم وظواهر التمييز والحرمان التي شكلت وتشكل تربة خصبة لنمو الشعبوية والتطرف، ومن دون إعادة التأكيد على مبادئ حقوق الإنسان، والمثابرة في الدفاع عنها، كقيم أخلاقية عالمية لا تنازل عنها، بما في ذلك عدم التردد في إظهار منافع وحسنات الحكومات الديمقراطية التي تنأى عن الاستئثار والفساد والتمييز وتخضع للمساءلة أمام شعوبها، وخاصة المساءلة عما قامت به لحماية أرواح الناس في جائحة «كورونا» أو عند كل محنة يتعرضون لها.