النزاع العربي ـ الإسرائيلي.. عقبة في سبيل التقدم أم مشجب لتعليق الفشل؟
TT

وهل “يجوز” أن يتنازل “الإخوان” عن الحكم لغيرهم!

على رأس كل شَهر في مصر، تختلط رائحة البَارود برائحة الدَّم، وتدور عجلة الأسى كالرَّحَى تطحن أحلام “ديمقراطية الصّناديق المُدّعاة”، ويكون أهل مصر على موعد مع إعلانٍ دستوري، يُلقِيه الرَّئيس مساءً، ويُلغِيه في الصباح، كمن يعمل بنظريّة عطاء البَخيل التي تقول “اسرق منهم درهمين وأعد إليهم درهماً واحدًا، وهم سيفرحوا بذلك أكثر من فرحتهم لو أعطيتهم نصف درهم!”. وفي مصر “الميادين، والعصيانات” يزداد الحاكمون توتّرًا وتزداد جبهات المعارضة تخبطًا، ويزداد الشعب أسى، وتتطاير الأحلام مبعثرة، وفي هذا الخضم، يُطِل من يرتَدِي ثوب الحِكمة ويمارس التّخويف من “عودة العسكر” و”النموذج الباكستاني” ويتمطق مستدلاً بأن الثورات تحتاج لأعوام لتنضُج ويقول “أخطاء الدِّيمقراطيّة لا تُعالَج إلا بمزيدٍ من الدَيمقراطيّة”، فهل صَدَق، أمْ هي قولة حق انتُزِعَت عن سِيَاقَها!

الإجابة تُدخِل النَّاس في جِدالٍ عَظيم، يفوِّت مناقشة البِدايات، واختبار “التّوافق” والمُسلّمات التي يَظنُّ الواجمون على صدرِ المَسرح السِّياسِي أنّها محسومة، فمن منا تساءل لو افترضنا أنّ “هذه الصَّنادِيق “دِيمقراطيّة”، وهذه الانتخابات أداة “نزيهة الأغراض”، فهل اللاعبون ديمقراطيون؟ سواء من يُجِيز الانتخاب ببند “أخفّ الضررين” والبرلمان بباب “سدِّ الذّرائع” والدِّيمقراطيّة باسم الخِبرة، ويَتخِذها جِسرًا لعبور المرحلة، ومن يعتنقها مبدأ ونمط حياة؟

الدّيمقراطيّة -التي تَقتَضِي أن يَتخَاطَب العَقل الدِّيمقراطي حول مصالح إنسانيّة واضحة مع عقل إنساني آخر – تبنّاها رجال يتخذون “أفكارًا طوباوية” و أدلوجة ومُثلاً لم تختبرها أية ممارسة، وهم لا يستنكِفون أن يجعلوا أنفسَهم صادرين بتكليف فوق بشري، وقد تبدو لديهم الديمقراطية حينها “أداة” مثلها مثل “الانقلاب العسكري” و السَطو على السُّلطة، يُمارَس لخدمة “المشروع”، الذي يُختَزل في “حُكم الجَماعة”.

فمن أين ينسرب الإيمان بالدِّيمقراطيّة لديهم، وحتى لو وجِد فإنّه من باب القبول “بالخِبرة الكسرويّة” كما عبر عنها أحدهم، ولا تدخل من باب “المِيثاق”، والسؤال هنا :هل يستمر الإيمان بها لما بعد الحكم؟

يقول الباحث السّوداني حيدر إبراهيم “عندما يصل الإسلاميون إلى السُّلطة يتحولون سريعًا من المثاليّة والتّوق إلى الواقعيّة النفعيّة، وهو ما يفرض – حسب مكيافيلي – انسحاب الأخلاق لو تعارضت والغايات السِّياسِيّة، لذلك يطغى خطاب التّبرير لا خطاب التَّسبيب” (الإسلاميون والدّيمقراطيّة، المسبار، 2013، ص92)، هذا يوجّه إلى فتح الباب لسياسة التّبرير، لتذوّب المُثل والمنظومة التي اتفق أنّها كانت “أخلاقية”، وعلى حد مونتسكيو فـ”إنّ جميع الرّذائل السِّياسّية ليست رذائل أخلاقيّة، وكل الرذائل الأخلاقيّة ليست رذائل سياسيّة” (روح الشرائع)، هذه المفارقة تجعل “فصلاً بين السِّياسّة والمبادئ “ينتهجه المؤدلجون، لتنجرّ السّياسة “ومن ضمنها” الحكم، لتصير خادمة للمبادئ، التي ذابت (بدورها) في الأنا والجماعة، فيصير المبدأ هو “الحفاظ على الظواهر” ومن ضمنه الحِفَاظ على البقاء في السُّلطة وعدم تسليمها، حتى لو اقتضى الأمر، تحمّل إثم التّزوير، وإراقة الدّماء، لتحقيق فضيلة “المشروع الذي يقتضي البقاء” والتمكين.

هذا المنطق السِّياسي، هو لتفسير الصيرورة، أمّا المنطق الدّاخلي، يتجلّى لو طُرِح السّؤال “هل يجوز حسب المُثل والقيم الأساسية للإسلام السِّياسي، الذي يعرض نفسه ممثلاً لشرع الله، أن يتخلَّى عن الحكم لصالح تيار آخر؟” أيًا كانت إجابة التقية، فإنّ إجابة الواقع تقول إنّ الإسلام السِّياسِي الشِّيعي، ابتدع ولاية ثابتة لفقيهٍ يعزله الموت فقط، يُبَاشِر الإشراف على انتقال السّلطة من إسلاميٍ لآخر، ووضع ضوابط تضمن أن لا تخرج السُّلطة من داخل التيار الإسلامي الإيراني، فالإصلاحي إسلاموي، والمحافظ إسلاموي، وكلاهما مرهون بإرادة المرشد “التنظيم”، أمّا التّجربة السُّودانِيّة، فلا تزال ثابتة على استمرار الرّئيس الواحد، ولم يتمّ تأصِيل إن كان تداول السُّلطة جائزا أم أنّه “تول عن الزّحف”، أمّا حماس في غزّة، فإنّها لم تترك السُّلطة “النّاقصة”، بدعوى عدم التخلي عن الأمانة، ودفعت ما دفعت في سبيلها، وأرغمت من أرغمت على الدفع معها.

أما المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين فكان أوضح النّاس فقال “إذا ولينا الحكم لن نتخلى عنه” (حسن الهضيببي، مجلة المصور، 24 أكتوبر(تشرين الأول) 1952).

لو مارس الإخوان تطوير فنّ البقاء في الحكم، فإنّ ذلك يعني أن تتحوّل مصر إلى “ملكيّة افتراضيّة” يتوارثها حكّام من الإخوان أو يحكمها الآخرون بقوانينهم، ولعل الهوس بسنّ التشريعات والقوانين، سيزداد، وسيزداد أيضًا اهتمام المعارضة بالطعن في القوانين، وتتكاثر أحاديث السياسة، وفي أثناء الصراع حول إتمام مشيئة الإخوان بالثبات والتعمّق في مفاصل الدّولة، وبين رغبة المعارضة إيقاف ذلك، سيبتعد الاثنان عن المجتمع، وعن أمل التغيير، وسيصبح “السَّاسة شيء” والمجتمع شيء آخر، وبالطبع “مصر تدفع الحساب”.