إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

مسكين نيفيل تشمبرلين؟

إذا كنا لنركن إلى اتجاهات الرأي العام في الدول الغربية الكبرى، فالصورة واضحة. الشارع في هذه الدول، وتحديدا في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ضد أي تدخل في سوريا بنسبة الثلثين.
هذا واقع ربما راعاه الرئيس الأميركي باراك أوباما، وقبله رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عندما قررا «إخلاء ذمتيهما».. والهروب لرمي القرار الصعب في أحضان ممثلي الشعب.. وكفى الله المؤمنين شر القتال.
الديمقراطية أمر طيب، بل ضروري. لا جدال في ذلك. والمذاق المر لغزو العراق ما زال يضايق المواطن الأميركي والبريطاني، ولا سيما على أصعدة الخسائر البشرية، والتكلفة المالية العالية، والشعور بأن القيادتين في «البيت الأبيض» و«10 داونينغ ستريت» خدعتاه وخانتا ثقته.
هذا كله صحيح.
أيضا صحيح أن كاميرون سياسي معتدل.. ضعيف القناعات وميال إلى التسويات، ولهذا السبب بالذات انتخبه حزب المحافظين لقيادته بعد ثلاث هزائم انتخابية موجعة على أيدي حزب العمال. لكنه حتى عندما قاد المحافظين في الانتخابات الأخيرة، فإنه عجز عن تحقيق غالبية برلمانية، مما اضطره لتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الديمقراطيين الأحرار.
والمعروف عند متابعي الشأن البريطاني، أن هيبة زعيم الحزب وقوة نفوذه على نواب حزبه تعتمد إلى حد بعيد على حجم غالبية المقاعد التي يتمتع بها الحزب في مجلس العموم، فإن كانت لديه غالبية ضخمة كحال مارغريت ثاتشر بعد انتخابات 1983 (144 مقعدا) وانتخابات 1987 (102 مقعد) وتوني بلير بعد انتخابات 1997 (179 مقعدا) و2001 (167 مقعدا) يكون معظم النواب مدينين له بمقاعدهم، وحتى إذا تمرّد بعضهم، فإن الحجم الضخم للغالبية يجعل أي تمرُّد عديم التأثير. وفي المقابل، تعكس الغالبيات الضئيلة انقساما حادا في البلاد وضعفا في سطوة زعيم الحزب على نواب حزبه، مما يشجع أي نائب لا يرضى عن موقف سياسي على التمرّد. وهذا ما هو حاصل الآن مع كاميرون الذي لا يتمتع أصلا بغالبية، بل يرأس ائتلافا قائما على الترضيات والتسويات وتبادل المواقف.
في ضوء هذا الواقع كان «هروب» كاميرون إلى تصويت مجلس العموم مسألة تستدعي التفكير.. فهل كان حقا يريد التدخل في سوريا؟ وإذا كان يريد التدخل.. لماذا طلب تفويضا برلمانيا ليس ملزَما بالحصول عليه؟ ثم هل كان واثقا من الحصول على التفويض؟ وإذا كان واثقا ومطمئنّا فماذا حدث.. بما أن تحت سلطته مكتب النظام الحزبي The Whip’s Office المولج بانضباط النواب وضمان اقتراعهم لصالح ما تريده حكومة الحزب؟
باختصار، سقط كاميرون كـ«زعيم»، وإن كان قد نجح في أنظار كثيرين كـ«ديمقراطي» يحترم اتجاهات الرأي العام. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن صيغة الطلب المطروح على النواب كانت مُلتبَسة ومُبهَمة، وكانت الاعتبارات السياسية الداخلية البريطانية عنصرا حاسما في رغبة المعارضة العمالية في إذلال كاميرون، ورغبة بعض يمينيي الحزب في إضعافه وإطاحته قبل الانتخابات المقبلة التي يتوقّع أن يأخذ خلالها حزب «استقلال المملكة المتحدة»، اليميني الانعزالي المطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي، نسبة عالية من أصوات الناخبين المحافظين التقليديين.
حالة باراك أوباما في الولايات المتحدة مشابهة إلى حد ما لحالة زميله البريطاني. فهو معتدل وشعبوي وضعيف القناعات، يميل إلى التسويات على حساب المبادئ. ومثله ما كان مُجبرا على اللجوء إلى الكونغرس إذا كانت الضربة التي توعد بها النظام السوري وداعميه مجرد «ضربة تأديبية وتحذيرية». غير أنه سبق لأوباما أن أعطى إشارات متناقضة كثيرة، معظمها سلبي، ساهمت في التصلّب الروسي - الصيني.. والاستخفاف والمكابرة من قبل نظام الأسد. واستمرت إشارات واشنطن السلبية من أوباما ووزير خارجيته جون كيري حتى بعد تجاوز عدد ضحايا المأساة السورية حاجز المائة ألف قتيل.
وفجأة، وقعت المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية.
خلال الساعات الأولى، سيطر على واشنطن ولندن الصمت.. وأحيانا رفض التصديق. وهنا أتذكر كيف تعامل برنامج «نيوز نايت» الإخباري البريطاني المرموق في تلك الليلة. لقد كانت التغطية سيئة جدا وقليلة التعاطف، وكانت المقابلات مع مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق فيليب كراولي، والباحث الأميركي مايكل روبن، والنائب البريطاني المحافظ جون بارون، باهتة ومشككة، مترددة في التصديق وميالة إلى الترويج للإحجام عن أي رد فعل. غير أن بشاعة الصورة غيرت النبرة في اليوم التالي، وجاءت المقابلات مع الدكتورة رنا قباني، والجنرال الأميركي جاك كين نائب رئيس الأركان السابق، وسفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة نانسي سودربرغ ممتازة، شدد خلالها الثلاثة على الواجب الأخلاقي والمبدئي، بصرف النظر عن المصالح السياسية العابرة.
ولم يمضِ وقت طويل حتى أدلى كيري بتصريح أكد فيه ارتكاب نظام دمشق المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية، وأعلن قرار واشنطن معاقبة الأسد. وخلال الساعات التالية، ساد اقتناع بأن تسديد الضربة التأديبية بات مسألة ساعات لا أيام، كما سجلت انشقاقات عدة عن جيش النظام، وذكر أن جماعات من أزلامه غادروا باتجاه لبنان تمهيدا للفرار إلى الخارج. ولكن فجأة، جاءت المفاجأة على لسان أوباما، إذ قرّر إحالة أمر الضربة إلى الكونغرس.. حيث لا ضمانات بالموافقة عليها.
أوباما، طبعا، سياسي يؤمن بالديمقراطية مثل ديفيد كاميرون.. وهو مثله سياسي «يدير أزمات»، لكنه لا يتمتع بكيمياء الزعامة.
الزعيم الفرنسي الراحل الكبير شارل ديغول قال ذات يوم: «عندما أريد أن أعرف ما تريده فرنسا.. أسأل نفسي»، لأنه كان يفهم وزنه السياسي وقيمة مواقفه الأخلاقية، ويقدّر الواجب الملقى على عاتقه كزعيم تاريخي. كذلك قال السياسي الأميركي العظيم هنري كلاي: «أفضِّل أن أكون على حق على أن أكون رئيسا»، لأنه شخص مبدئي يحترم نفسه.
وفي موضوع المبادئ، قلما اعتزت الدول التي تعتبر نفسها ديمقراطية بتقديم تنازلات للديكتاتورات ومجرمي الحروب، ولهذا سخرت أجيال من البريطانيين من الورقة التي لوّح بها رئيس وزرائهم السابق نيفيل تشمبرلين بعد عودته من لقاء أدولف هتلر.. ووعدهم بالسلام.
ربما حان الوقت للاعتذار من تشمبرلين!