مايكل سترين
بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

القوى الأساسية المحركة لعدم المساواة

قال جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي السابق، في خطاب له في معهد «بروكينغز»: «يقدم العمال المزيد ويحصلون على أقل كثيراً مما يستحقون؛ لا توجد الآن علاقة بين الإنتاجية والأجور». وتتفق معه إليزابيث وارين، عضو مجلس الشيوخ المرشحة الرئاسية الديمقراطية المنافسة، حيث ذكر الموقع الإلكتروني لحملتها الانتخابية أن «الأجور باتت ثابتة إلى حد كبير»، رغم «زيادة إنتاجية العامل بشكل مطّرد». وقد انتشر الحديث عن عدم ارتباط الإنتاجية بالأجور، سواء في صفوف اليسار أو اليمين السياسي على حد سواء. ويرى مؤيدو هذا الرأي أن العمال لا يحصلون على ما يستحقون استناداً إلى إسهاماتهم في صافي أرباح أصحاب العمل.
وتوضح عدم المساواة في الدخل، أي الفجوة بين دخول الأثرياء ودخول غيرهم، تدفق عائدات الاقتصاد بشكل غير عادل نحو من هم على القمة. ويتمادى الشعبويون في هذا الاستنتاج، بقولهم إن الرأسمالية قد انتهت بشكل جوهري. وإذا كان هذا ما يحدث، فإنه يفند الجانب الاقتصادي النظري الذي يشير إلى أنه يتم تحديد الأجور على أساس الإنتاجية، أي حجم العائد الذي يساعد العامل صاحب العمل على تحقيقه. فإذا دفعت شركة لعامل أجراً أقل مما يستحقه على أساس إنتاجيته، فسوف يستطيع الحصول على وظيفة أخرى يحصل من خلالها على أجر يستحقه، حيث يتنافس أصحاب العمل على العاملين، وهو ما يضمن توافق وتناسب أجور العمال مع إنتاجيتهم.
بطبيعة الحال، تغفل هذه النظرية أموراً وجوانب كثيرة، إذ يوجد تفاوت بين الأجر والإنتاجية لعدة أسباب لا يتم ذكرها في النموذج الاقتصادي المعياري؛ ربما لا يعرف العمال حجم ما يحققونه من عائد، أو الخيارات الأخرى المتاحة أمامهم من الوظائف. كما أن لتغيير الوظيفة ثمناً، وهو ما يمنح أصحاب العمل على أرض الواقع قدراً من السلطة فيما يتعلق بالأجور. وتعد عبارة «قدر من السلطة» بالنسبة إلى منتقدي النظام الحالي تقليلاً كبيراً من حجم الحقيقة، حيث يرون أن تراجع الاتحادات العمالية، وتآكل الحد الأدنى للأجور، وزيادة الاتفاقيات التي تقضي بعدم التنافس وعدم استمالة العاملين، وعدم التطبيق الكافي للمعايير الخاصة بأماكن العمل، وما شابه، قد أدى إلى تناقص قوة وقدرة العاملين على التفاوض، وهو ما أتاح لأصحاب الأعمال خفض الأجور إلى الحد الأدنى الذي يقبل به المتقدمون للوظائف، أو العاملون الحاليون بالفعل، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض الأجور إلى مستوى أقل من مستوى إنتاجية العاملين.
أي رأي هو الصواب؟ يقدم إدوارد لازير، خبير الاقتصاد بجامعة «ستانفورد»، الذي حلل بيانات من اقتصاديات متقدمة، ويؤكد وجود صلة قوية بين الأجر والإنتاجية، آخر دليل متعلق بهذا السؤال. وقد توصل بحث لازير، مثل دراسات كثيرة سابقة، إلى أن العاملين ذوي الأجور المنخفضة والمتوسطة والمرتفعة يستفيدون جميعاً من زيادة متوسط الإنتاجية. ويشير ذلك إلى أن تحسين الكفاءة الاقتصادية بشكل عام يساعد العاملين كافة، وليس فقط الأثرياء. ومع ذلك، يرى لازير، وهو محق في ذلك، أن المسألة لا تتعلق بما إذا كان العاملون يستفيدون من التغيرات في متوسط الإنتاجية، بل إذا كنت تريد معرفة ما إذا كان العاملون يحصلون على أجرهم استناداً إلى إنتاجيتهم، ينبغي عليك النظر فيما إذا كانت التغيرات في إنتاجية العاملين ذوي الأجور المنخفضة تؤثر على أجر هذه الفئة أم لا.
وليس من المجدي قياس إنتاجية العاملين بشكل منفرد، كأن تقيس العائد من ساعة عملي في «بلومبرغ» على سبيل المثال. لذا، يفحص لازير الإنتاجية على مستوى المجال، ويقارن بين الصناعات والمجالات التي توظف عاملين يتمتعون بمهارات كبيرة، وأخرى توظف عاملين أقل مهارة. ويستنتج لازير، باستخدام بيانات خاصة بالولايات المتحدة منذ عام 1989 حتى عام 2017، أن الإنتاجية في الصناعات التي يهيمن عليها عاملون ذوو مهارات مرتفعة قد ازدادت بنسبة 34 في المائة خلال تلك الفترة، وقد ارتفعت أجور أولئك العاملين بنسبة 26 في المائة. أما بالنسبة إلى الصناعات التي تتطلب مهارات أقل، فازدادت الإنتاجية بنسبة 20 في المائة، في حين ارتفعت الأجور بنسبة 24 في المائة. بعبارة أخرى، لقد ازدادت الأجور بشكل أسرع من الإنتاجية في الصناعات التي يعمل بها عاملون أقل مهارة، وأبطأ من الإنتاجية في الصناعات التي يعمل بها عاملون يتمتعون بمهارات كبيرة.
ومن الأمور الصادمة الأخرى التي تم اكتشافها أن «عدم المساواة في الإنتاجية»، أي الفجوة في الإنتاجية بين بعض العاملين وبعضهم، قد ازدادت بشكل أسرع من عدم المساواة في الأجور خلال تلك الفترة. وفي حين ازداد التفاوت في الأجور بمرور الوقت، ازداد التفاوت في الإنتاجية بين فئات العاملين بشكل أكبر. خلاصة القول: إن زيادة الأجور بوتيرة أبطأ بالنسبة للعاملين الأقل مهارة ليست دليلاً أولياً أو مستنداً إلى الانطباع بتمتع أصحاب العمل بسلطة كبيرة على الأجور، أو على أن الإنتاجية لا تحدد الأجور، بل يخلص لازير إلى أن زيادة الإنتاجية بالنسبة إلى العاملين ذوي المهارات الكبيرة قد تمت بسرعة على نحو يجعلها سبباً لغياب المساواة المتنامي.
ما الذي تسبب في ذلك؟ يشير لازير إلى تفسيرين مألوفين: أولاً يفيد التغير التكنولوجي بشكل غير متناسب العاملين ذوي المهارات الكبيرة، حيث ازدادت أجورهم وإنتاجيتهم. وأدى التحول الناتج عن العولمة نحو الاقتصاد القائم على الخدمات إلى انخفاض إنتاجية العاملين المنتجين للسلع من ذوي المهارات المحدودة. كذلك يشير لازير إلى أن الكليات ربما تكون قد طورت قدرتها على تزويد الخريجين بالمهارات، مقارنة بالمدارس الثانوية. ولو كان الأمر كذلك، لكان من المفترض أن تشهد الصناعات التي يهيمن عليها خريجو الجامعات زيادة أكبر للإنتاجية خلال العقود الثلاثة الماضية. وكان ذلك ليتسبب في تشتت أكبر في الإنتاجية بين الصناعات، وفي الأجور بين فئات العمال.
ولا يحسم هذا البحث الجدل القائم، لكنه يعزز وجهة نظري واعتقادي بأن الأجور قد تأثرت كثيراً بقوى السوق، وإن لم تتحدد على أساسها بشكل كامل. وفي حين تحدد الإنتاجية المستوى الأساسي للأجور، يحدث انحراف عن هذا المستوى الأساسي. لذا، على عكس ما يقوله بايدن ووارين وكثيرون غيرهم، فقوى السوق، لا ديناميات السلطة، هي القوى الأساسية المحركة لعدم المساواة. ويصل بنا ذلك إلى عمق السمات الأخلاقية لاقتصاد السوق، حيث تسفر الرأسمالية عن مخرجات غير متكافئة، وتزداد أجور البعض بشكل أسرع من أجور غيرهم. ربما تكون تلك التفاوتات مقبولة إذا كان سببها هو وجود فروق تتعلق بتقبل المخاطر، أو المجهود المبذول في العمل، أو المهارات. وتكون مقبولة أيضاً إذا كان الناس يحصلون بشكل ما على ما يستحقونه، لكن إذا لم يتم تحديد الأجور على أساس الإنتاجية، بمعنى أن الاجتهاد في العمل يكون غير مجدٍ ولا مجزٍ، ولا يتلقى العاملون عائداً عادلاً، فهذا يشير إلى وجود خطأ ما داخل المنظومة.
ولحسن الحظ، لا يبدو أن المنظومة قد خربت، لكنها مع ذلك بحاجة إلى تطوير، بهدف زيادة إنتاجية العاملين الأقل مهارة. كذلك يجب أن نحرص على أن تزداد أجور العاملين إذا ازدادت إنتاجيتهم.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»