الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

مهمة صعبة لإنقاذ اقتصاد متهالك ومواجهة أزمات في الجوار

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية
TT

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

يصف رئيس الوزراء الجزائري الجديد عبد العزيز جرّاد، نفسه بأنه «من أوائل ضحايا نظام بوتفليقة»، الرئيس السابق الذي أطاحت به انتفاضة شعبية في ربيع العام الماضي. ومردّ ذلك إلى إقالته من منصبه بصفته أمينا عاما لوزارة الخارجية عام 2004، عقاباً له على قربه من الخصم اللدود لبوتفليقة آنذاك، رئيس حكومته علي بن فليس، الذي «تجرّأ» وترشّح ضده في انتخابات شهدها العام نفسه.
ولقد اختفى جرّاد من الشأن العام مدة طويلة، وقال لمقربيه في وقت لاحق إن أبناءه وأفراد عائلته تعرضوا لمضايقات بسبب خياراته السياسية، التي لم يعلن عنها قط للإعلام. كما يقول عن بن فليس إنه «تخلى عنه في أحلك الظروف»، بعدما افترق الرجلان على إثر هزيمة كبيرة لبن فليس أمام بوتفليقة في الانتخابات.

عاد الدكتور عبد العزيز جرّاد إلى الواجهة السياسية في الجزائر بعد سنوات طويلة عن طريق الجامعة، فأصبح أستاذا بكلية العلوم السياسية بجامعة الجزائر العاصمة. ثم التحق بحزب «جبهة التحرير الوطني»، الذي يرأسه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
كان ذلك إيذاناً عن «توبة» منه، بحسب خصوم له، بينما رأى مراقبون في ذلك «تطبيعا مع السلطة، سيتبعه دور سياسي ينتظر جرّاد في المستقبل». وهذا ما حصل فعلاً، بعدما أصبح «الرجل الثاني» في السلطة التنفيذية، بعد رئيس الجمهورية. وهنا نشير إلى أن هامش رئيس الوزراء كسلطة في الجزائر، ضاق قياساً إلى الصلاحيات الكبيرة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية. فهو لا يملك صلاحيات التعيين في المناصب العليا ولا تعيين مسؤولين سامين. بل جرى تقليص سلطة رئيس الحكومة بدرجة كبيرة، في تعديل أدخله بوتفليقة على الدستور عام 2008، غير بموجبه تسمية المنصب إلى «وزير أول».

- خبرة اقتصادية محدودة
لا يعرف لرئيس الوزراء الجديد دراية بالشؤون الاقتصادية والمالية، في حين أجرّادن الظروف التي تمر بها الجزائر راهناً بحاجة إلى مسيّر أثبت نجاحاً في تدبير الشأن العام. أما الميدان الذي يشهد الكثير، بأن جرّاد متضلع منه، فهو الإلمام بالقضايا الاستراتيجية والأزمات الدولية، وبالأخصّ، في الدول المجاورة للجزائر كمالي وليبيا. ولذا يعول عليه في تحديد الدور الذي ينبغي على الجزائر أن تلعبه في الملفين، كقوة إقليمية تملك عمقاً في المنطقة.
جرّاد (65 سنة) قال في أول تصريح له بعد تكليفه برئاسة الوزراء، بنهاية العام المنصرم 2019، إن البلاد «مطالبة برفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجها البلاد، ويجب العمل سوياً على مواجهتها والتغلب عليها». وتعهد بالعمل «مع كل كفاءات الوطن من أجل الخروج من هذه المرحلة الصعبة». غير أنه تعرض لانتقادات شديدة بعد ظهور التشكيل الحكومي، الذي سينفذ برنامج الرئيس الجديد عبد المجيد تبَون. وقال منتقدوه إن طاقمه الوزاري «فريق غير متجانس، فهو خليط بين تكنوقراطيين ومحسوبين على تيارات آيديولوجية وسياسية». وتركزت انتقادات أخرى على «صلة الصداقة بينه وبين بعض الوزراء، التي كانت معيارا لتوليهم المسؤولية»، في حين أشار آخرون إلى «العدد المبالغ في الحقائب الوزارية» بالحكومة (39 بين وزير ووزير منتدب وكاتب دولة)، وبأن ذلك كان خطأ يتحمّله تبون، بحكم أن البلد يعاني من شحّ في الموارد المالية في حين أنه يترتّب عن كثرة الوزارات أعباء مالية إضافية.
معالجة الاضطرابات الاجتماعية... أولوية قصوى
بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة، قال جرّاد إن «مخطط عمل الحكومة» الذي يلزمه الدستور بإعداده وعرضه على البرلمان للمصادقة، «يتكفل بأهم انشغالات المواطنين». وعد الجوانب الاجتماعية في استراتيجية الجهاز التنفيذي «أولوية قصوى».
وأكد بخصوص الاحتجاجات والإضرابات في بعض القطاعات، كالتعليم والضرائب والخدمات العامة، أنه «تلقى، خلال اجتماع مجلس الوزراء (الأول بعد انتخاب تبون) توجيهات وتعليمات من السيد رئيس الجمهورية، تعبر عن إرادته في أن تتمحور أولويات الحكومة حول تجسيد مجمل تعهداته الانتخابية، مع الإلحاح على الطابع الاستعجالي للجانب الاجتماعي. بجانب هذا، لا ينبغي أن نغفل الاضطرابات الاجتماعية التي مست قطاعات مختلفة للنشاط الاقتصادي والخدمات العامة».
وقال بخصوص ما ينتظر طاقمه الوزاري من تحديات داخلية، إن «أهداف حكومتي متعددة ترمي إلى تحسين ظروف معيشة المواطنين، والحفاظ على القدرة الشرائية وإنجاز برنامج كبير للسكن. ففي في هذا الظرف الخاص، تعتزم الحكومة، حتى قبل تقديم مخطط العمل أمام المجلس الشعبي الوطني، إطلاق عهد جديد يقوم على أساس الحوار والتشاور مع جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين، وذلك في كنف المشاركة والشراكة».
ودعا جرّاد نقابات تلوح بالإضراب، إلى «المشاركة في المبادلات التي سنشرع فيها عن قريب، وتخصّ جميع قطاعات النشاط، غرض توفير الشروط المثلى من أجل الانطلاق في بناء أسس جزائر جديدة والعمل، يوماً بعد يوم، على تجسيد الالتزامات المتخذة من قبل السيد رئيس الجمهورية، والتي تعكف الحكومة على وضع الأدوات الضرورية لتحقيقها». وتحدث عن «مشروع ضخم يجري تحضيره ويتطلب آجالاً معقولة لتنفيذه، وجواً يطبعه الهدوء والحكمة والتبصّر».
وتابع جرّاد: «لتحقيق هذا المبتغى، فإن مساهمة ومشاركة الشركاء الاجتماعيين، دون أي إقصاء، هو أمر ضروري وحاسم، وبالأخص في قطاع التربية الوطنية (التعليم) الذي يستحق تكفلاً حقيقياً بصعوبات القطاع برمته. فالحكومة تتعهد بالإصغاء لتطلعات الشركاء الاجتماعيين وتحرص على كسب ثقتهم، خاصة وهي تشعر بالاطمئنان لما أثبتوه من نضج وصبر على وضع صعب عاشته بلادنا، وتجدد مرة أخرى استعدادها وتمام التزامها بمباشرة مسعى مشترك يطبعه الهدوء والحزم».

- تحت المجهر
من ناحية أخرى، وضع رجال السياسة، تحت المجهر خيارات جرّاد بشأن أعضاء الطاقم الحكومي. ومن الذين أبدوا اهتماماً بهذا الجانب، عبد الرزاق مقري، رئيس الحزب الإسلامي «حركة مجتمع السلم»، الذي كتب: «هناك شيء جميل في التشكيل الحكومي أعجبني، هو تعيين شخصيات كانت متطرّفة في معارضة النظام، ومعارضة تنظيم الانتخابات. وهناك شيء لافت استغربت له، وهو تعيين شخصيات يرفضها، بل يحاربها، التيار الذي دافع عن الانتخابات وخوّن المقاطعين لها وقسّم الجزائريين، بغير إرادة أغلبهم، على أساس العرق والانتماء للثورة والعروبة والإسلام». وذلك في إشارة إلى ناشطين في الحراك منخرطين في المظاهرات منذ بدايتها قبل قرابة 11 شهرا، وداعمين له من خلال تصريحاتهم ومواقفهم، دخلوا الحكومة، من بينهم الخبير الاقتصادي فرحات آيت علي وزير الصناعة والمناجم، وأستاذ الفلسفة بالجامعة مليكة بن دودة وزيرة الثقافة، والممثل التلفزيوني يوسف سحيري كاتب دولة مكلف بالصناعة السينماتوغرافية.
وبحسب مقري «شيء جيد الانفتاح على المعارضة - ولو كأشخاص - لأن هذا يساعد على التهدئة، إلى أن تظهر النيات الحقيقية، إن كان هناك إرادة فعلا للإصلاح وتجسيد خريطة سياسية على أساس الإرادة الشعبية، خلافا لما كان عليه الحال، أم هي تسكينات موضعية وتآمر على أصول وركائز العملية السياسية الصحيحة».
من جهته، يقول الكاتب الصحافي نجيب بلحيمر عن فريق جرّاد الحكومي إن «الوزارات مناصب سياسية في المقام الأول، والوزير لا يأتي لاستعراض كفاءات نظرية بل لينفذ سياسات شارك في وضعها، أو لتنفيذ سياسات مقتنع بها ولو لم يكن من المشاركين في صياغتها. يطرح مصطلح التكنوقراط كتعبير عن حكومات غير حزبية، لأن الأصل في الحكومات هو أن تتشكل من خلال انتخابات حيث تفرزها الأغلبية البرلمانية وجوبا في الأنظمة البرلمانية، أو تراعى فيها نتائج الانتخابات البرلمانية في نظم رئاسية أو شبه رئاسية بحسب ما يقتضيه الدستور أو العرف السياسي القائم».
ويرى الكاتب أنه «في الحالة الجزائرية طرح مطلب حكومة تكون مهمتها تصريف الأعمال، ضمن شروط الانتقال الديمقراطي وهو ما رفضته السلطة، وفرضت بدلاً عنه خريطة طريق بالقوة انتهت بتنصيب عبد المجيد تبون رئيسا، وبعدها تم الإعلان عن تشكيلة الحكومة والتي شهدت تعيين بعض الشخصيات المعروفة بكفاءتها في ميادين تخصصها، وهذه الكفاءات مطلوب منها إعطاء صورة مشرقة لواجهة نظام الحكم، لكن هناك أسئلة تطرح حول قدرة الكفاءة على إحداث أي تغيير ومن ضمنها كمثال: كيف يمكن الجمع بين وزير المالية الذي عمل في عهد بوتفليقة وبرر خيار طباعة النقود (وهو خيار كان كارثياً على الاقتصاد بحسب خبراء)، مع من كان بالأمس يقدم على أنه خبير مالي وانتقد هذا الخيار؟ الإجابة هنا هي أن الوزير ينفذ خيارات حتى وإن لم يكن مقتنعا بها، وهو بهذا يعمل موظفا ساميا ويقبل بأن ينفذ قرارات تخص قطاعه».

- ليبيا ومالي... أكبر التحديات
ويشرح أستاذ العلوم السياسية قوي بوحنية، الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط»، الوضع الجديد الذي سيتعامل معه جرّاد، خاصة ما تعلَق بالأحداث في بلدان الجوار، فيقول: «هناك مطالب في الداخل كما في الخارج، بتدخل الجيش الجزائري في ليبيا ومالي، لدرء المخاطر التي قد تصل من هذين البلدين. وأتصور أن السيد رئيس الوزراء لن ينساق وراء هذا الضغط، فهو يعلم أن العقيدة العسكرية الأمنية للجيش الجزائري يتحكم فيها الدستور، الذي يقيد الجيش بعدم التدخل خارج الحدود. فهو جيش دفاعي أساساً يتعامل بحذر مع الملفات الحساسة، بعكس كثيرا من العقائد العسكرية لكثير من الجيوش».
وأوضح بوحنية أن «حساسية الجزائر تجاه قضايا التدخل العسكري الخارجي، خصوصاً التدخل الفرنسي ناهيك من تدخل أطراف إقليمية ودولية حالياً، كلها معطيات تأخذها في الحسبان السلطات الجديدة التي جاءت بها انتخابات الرئاسة التي جرت الشهر الماضي. كما تأخذ في الحسبان بوجه خاص، هشاشة الحدود مع ليبيا والتي تتجاوز 900 كلم. وينذر الوضع في هذا البلد بتنامي الخطر الميليشياوي على الحدود وهو ما دفع المؤسسة الرسمية الجزائرية، إلى التعامل مع حفتر كقائد ميليشيا وليس قائد جيش». وأردف: «تتعاطى الجزائر مع الأزمة الليبية، من منطلق الشرعية الدولية، حسب مسؤوليها، الذين يعترفون بفايز السراج وبرلمانه فقط ويطالبون بحل الأزمة وفق مخرج دستوري وقانوني داخلي».
كذلك لاحظ بوحنية أن «قوة الجزائر في هذا الملف، تتمثل في احتفاظها بمسافة واحدة مع الأطراف الإقليمية. فعلاقتها متميزة مع تركيا ودول الخليج ومصر، وهو ما يجعلها تتبنى موقفاً لا يقبل التدخل المباشر حتى تتمكن من فرض دبلوماسية أمنية وإنسانية في آن واحد. ويمكن أن نلاحظ الدور الجزائري في جامعة الدول العربية ودورها الإنساني، في ربط حزام جوي وبري للمساعدات الجزائرية إلى الشقيقة ليبيا... يجب برأيي عدم إنكار الركود الدبلوماسي الذي عاشته الجزائر في العقد الأخير، بسبب شلل مؤسسة الرئاسة دبلوماسيا وسياسيا بسبب مرض الرئيس بوتفليقة واحتكاره للدبلوماسية، وهو ما جعل أطرافاً تتمدد في الفراغ الدبلوماسي الذي تركته الجزائر».

< بطاقة هوية
- ولد في مدينة خنشلة (شمال شرقي الجزائر) عام 1954، وهو متزوج وأب لأربعة أولاد.
- تخرّج شهادة عليا في العلوم السياسية من معهد العلوم السياسية في الجزائر عام 1976، وحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة باريس - نانتير (فرنسا) عام 1981.
- حصل على درجة بروفسور عام 1992، بعد التدريس في عدة مؤسسات جامعية في الجزائر وخارجها.
- شغل منصب مستشار دبلوماسي في عهد الرئيس علي كافي عام 1992، وأمين عام للرئاسة في عهد الرئيس اليامين زروال، وكان مدير المدرسة العليا للإدارة لمدة 5 سنوات بين عامي (1989 - 1992).
- شغل منصب الأمين العام لوزارة الخارجية 2001 و2003.
- كُلّفَ بتشكيل الحكومة الجديدة عام 2019.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».