شهدت الآونة الأخيرة سلسلة من المقالات في صحف إسرائيلية عدة أتى معظمها من اليمين الإسرائيلي المقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تضمنت امتعاضاً واضحاً من التصعيد الواضح للمسؤولين الأردنيين تجاه السياسات الإسرائيلية المتغطرسة. وفي الأخص، فإن إسرائيل ممتعضة من قرار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني عدم تجديد اتفاقية أراضي الباقورة والغمر، التي أتاحت لإسرائيل استخدام هذه الأراضي الأردنية للخمسة والعشرين عاماً الماضية وفق ترتيب خاص في معاهدة السلام بين البلدين. وفي حين يقف أغلبية الشعب الأردني اليوم ضد المعاهدة، فإن هذه المقالات بدت هي الأخرى معادية للمعاهدة، لكن لأسباب مختلفة تماماً، تتعلق بالمحاولة الإسرائيلية القديمة الجديدة لحل النزاع العربي - الإسرائيلي على حساب الأردن.
كيف نقرأ المشهد اليوم بروية وتحليل فيما يتعلق بالعلاقة المتوترة للغاية بين البلدين وأثرها على المستقبل؟
بداية، فإن النظرة الإسرائيلية للأردن على أنه جزء من وعد بلفور ليست جديدة، وتعود أصولها إلى العشرينات من القرن الماضي والنظرية الجابوتنسكية «لأرض الميعاد». وبعد حرب 1967 مباشرة، خرج إيغال آلون، وزير العمل الإسرائيلي آنذاك من حزب العمل، بخطة آلون لتقاسم الضفة الغربية بين إسرائيل والأردن مع احتفاظ إسرائيل بالقدس وأجزاء من الضفة، وهي الخطة التي كانت أساساً فيما بعد لطرح آرييل شارون في الثمانينات أن الأردن هو فلسطين. ومن المفيد التذكير بتصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إسحق شامير عام 1982 بأن «المشكلة ليست في غياب وطن للفلسطينيين العرب. ذاك الوطن يدعى شرق الأردن، أو فلسطين الشرقية».
وبقي هذا الهاجس لدى الأردن حاضراً بقوة في ذهن المغفور له الملك الحسين والمسؤولين الأردنيين كافة؛ ما أدى إلى إصرار الأردن على تضمين المعاهدة بنداً ينص على عدم السماح للهجرة القسرية للسكان بين البلدين. وصرح الكثير من المسؤولين الأردنيين آنذاك بأن المعاهدة دفنت نظرية الوطن البديل للأبد.
لكن الوضع اليوم مختلف تماماً عما كان عليه عام 1994 حين تم توقيع المعاهدة، وبعد أن وقع اتفاق أوسلو في العام السابق، أي 1993. فقد كان الأمل الفلسطيني، ومن ورائه الأردني والعربي، أن يتم إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بحلول عام 1999 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وبذلك يتحقق الحلم الفلسطيني بتقرير المصير على الأرض الفلسطينية، وتنتهي مؤامرة الوطن البديل على الأردن بإقامة الدولة الفلسطينية.
لكن الأمور لم تتطور بهذا الشكل. فقد مر اليوم على اتفاق أوسلو ستة وعشرون عاماً زاد فيها عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية من مائتين وخمسين ألفاً إلى ستمائة وخمسين ألفاً، بما في ذلك مائتان وخمسون ألفاً في القدس الشرقية وحدها ما جعل الفصل بين الجانبين شبه مستحيل، وما قوّض فرص تطبيق حل الدولتين حتى إنْ توفرت الإرادة السياسية لهذا الحل.
لكن هذه الإرادة غير متوافرة اليوم. لا يكل رئيس الحكومة الإسرائيلية وهو يعلن عدم نيته الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، بل نيته ابتلاع غور الأردن وضم المستوطنات للسيادة الإسرائيلية. ولا تتوافر هذه الإرادة لدى الإدارة الأميركية، التي تحاول تمرير «صفقة القرن» التي بات من الواضح أنها لن تؤدي إلى حل مقبول وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. ولا تتوفر هذه الإرادة أيضاً لدى المجتمع الدولي الذي لم يرغب يوماً في إغضاب الجانب الأميركي في هذه المسألة.
يضاف إلى كل ما سبق العامل الديموغرافي داخل الأراضي التي تسيطر إليها إسرائيل اليوم. فقد وصل عدد الفلسطينيين العرب في الداخل والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة 6.6 مليون شخص، مقارنة بـ6.5 مليون إسرائيلي يهودي؛ ما يشكل اليوم غالبية عددية لصالح الفلسطينيين. وهذا الغالبية مرشحة للازدياد تدريجياً، حيث معدل الولادة لكل امرأة فلسطينية 4.1 طفل مقارنة بـ3.1 طفل للمرأة الإسرائيلية. وهو ما يعني أن الفلسطينيين سيشكلون غالبية كبيرة للسكان خلال العقود القليلة المقبلة.
تبعاً لكل هذه الحقائق أعلاه، فإن أي تتبع للمنطق الإسرائيلي سيقود إلى نهايات كارثية للأردن. فإذا لم ترغب إسرائيل في إقامة دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني، ومن الواضح أنها لا ترغب في ذلك، وإذا لم ترغب أيضاً في إبقاء أغلبية فلسطينية داخل الأراضي التي تسيطر عليها، فإن الاستنتاج المنطقي الوحيد أن إسرائيل ستحاول، وبكل الوسائل، أن تتخلص من عدد كبير من الفلسطينيين، وتدفعهم باتجاه الأردن. وقد أثبتت الأزمة السورية أنه من الممكن جداً أن تؤدي ظروف الاقتتال في بلد إلى هجرة عدد كبير من السكان فاق في الحالة السورية ستة ملايين شخص.
إذن، ليس من باب التهويل الاستنتاج أن سيناريو الوطن البديل ما زال حاضراً وبقوة لدى ذهن صانع القرار الإسرائيلي. وتبعاً لذلك لا نستطيع أن نستخف بالمقالات الإسرائيلية الأخيرة على أساس أنها لا تعبر عن الموقف الإسرائيلي الرسمي. إن المعلومات الواردة أعلاه تشير إلى استنتاج منطقي وحيد: أن هذا السيناريو هو اليوم في صلب التفكير الإسرائيلي الرسمي.
هل يعني ذلك أن إسرائيل ستنجح في مسعاها؟ ليس بالضرورة. تشير استطلاعات مشروع الباروميتر العربي إلى أن الأراضي الفلسطينية لم تظهر ازدياداً في عدد من يرغب في الهجرة خلال الأعوام السبعة الماضية، وهو ما يشير إلى تمسك الفلسطينيين بأرضهم رغم كل الإجراءات الإسرائيلية.
لكن العالم العربي لا يمكنه أن يكتفي بهذا، بعد أن أصبح واضحاً أن أفضل سبيل لمحاولة إسرائيل ابتلاع الأرض والقدس ومنع إقامة دولة فلسطينية هو دعم بقاء الفلسطيني على أرضه. إن مثل هذا الدعم لا يجوز أن يبقى معنوياً، فهناك حاجة ماسة اليوم إلى دعم مادي حقيقي يضمن صمود الفلسطينيين على أرضهم في المستقبل القريب والمتوسط. ثم إن أصبحوا أغلبية واضحة، لن تتمكن إسرائيل من إدامة نظام أبارتهايد عنصري، تحكم فيه الأقلية الأغلبية إلى الأبد. كما لن يستطيع المجتمع الدولي إبقاء دعمه مثل هكذا نظام عنصري بعد موت حل الدولتين، ومطالبة الفلسطينيين إسرائيل بحقوق متساوية.
يقف الأردن اليوم بمكوناته الشعبية والرسمية كافة ضد مؤامرة الوطن البديل هذه وبكل صلابة. وقد أثبت الأردن بقيادة الملك عبد الله الثاني حنكة سياسية فائقة ومقدرة على إدارة الأزمات المتلاحقة في النزاع العربي - الإسرائيلي. إلا أن مسؤولية دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه مسؤولية مشتركة لا يستطيع الأردن تحملها وحده. عربياً، فإن من يهمه أن تبقى القدس عربية مدعو اليوم لوقفة جادة لدعم الصمود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. ودولياً، فالمجتمع الدولي أيضاً مدعو لوقفة جادة لدعم الصمود الفلسطيني على أرضه إن لم يكن راضياً عن واقع الدولة الواحدة. أما بيت القصيد فهو أن إسرائيل في النهاية هي من ستتحمل تداعيات الدولة الواحدة إن لم تكن ترغب في حل الدولتين.
* وزير الخارجية الأردني الأسبق - خاص بـ«الشرق الأوسط»