العنوان ليس من تأليفي، لكنه وللحق، وللدقة معاً، ينقل بعض الحقيقة الجاثمة على صدور قادة حلف الأطلسي كما عبّروا عنها هم بأنفسهم قبل وأثناء انعقاد مؤتمر لهم بمناسبة مرور سبعين عاماً على ميلاد الحلف. الانعقاد جرى في لندن قبل أسبوع من موعد إجراء انتخابات نيابية، وهو بالطبع موقع غير مناسب لانعقاد قمة أغلب الحضور فيها قادة دول على وشك إنهاء ارتباط قوي بينها وبين المملكة المتحدة. وبالطبع أيضاً، الموعد غير مناسب؛ فأعصاب الإنجليز في هذا الأسبوع تغلي وهي في عادتها أعصاب باردة. تغلي لأسباب شتى ليس أقلها شأناً الحملة الانتخابية، لكن أيضاً وجود الرئيس الأميركي دونالد ترمب بين القادة الزائرين. رجل لا يحبه أغلب البريطانيين. الأدهي أنه قائدهم وبلاده ولية نعمة الكثير من دول أوروبية حاضرة بصخب في المؤتمر، بينها دول كانت هي نفسها من بين من خرجت قبل سبعين عاماً خراباً من حرب عالمية ومهددة باجتياح جحافل جيوش روسيا السوفياتية الزاحفة بشيوعيتها نحو الغرب. فوق هذا وذاك أحاطت بالمؤتمر دوافع كثيرة للسخرية البريئة غالباً، أحدها على سبيل المثال، جسّده واقع تجري فصوله في مبنى تل الكابيتول في العاصمة الأميركية، حيث يجتهد نواب الحزب الديمقراطي لعزل الرئيس الأميركي عن منصبه لأسباب تتعلق باتهامات عن نقص في النزاهة والأمانة في حماية المصالح القومية لبلاده، واستهانته بمبادئ الأمن القومي الأميركي. دافع السخرية هنا هو أن الرئيس الأميركي نفسه هو الذي يقود في مدينة لندن مؤتمراً لأعضاء حلف الأطلسي، أقدم الأحلاف وأهمها رغم كل ما ألمّ به من نقائص وتقصير لتصبح في النهاية صلاحية الحلف وقائده والأمن القومي للغرب، محل شك كبير.
يجب أن أعترف أنني قضيت قرابة ثلاثة أيام أراقب بشغف وضجر متبادلين مشاهد رأيناها من قبل، أو تصريحات سمعناها وتوقعناها وتصرفات دون المستوى. عنت لي في نهاية العرض ملاحظات حول تلك المشاهد والتصريحات والتصرفات اختار منها للطرح والمناقشة ومراعياً المساحة المقننة ما يلي.
أولاً: عندي شخصياً مشكلة مع تدني مستوى استخدام كلمة الاستراتيجية في لغة الميديا العربية، في أشكالها ومؤسساتها كافة. تفهمت طويلاً رغبة مذيع ناشئ في قناة إخبارية ثانوية تكريم ضيف طيب الخلق رقيق الحاشية بخبرة المبتدئ في التحليل والتعليق فراح يضيف إلى بطاقة التعريف به صفة الاستراتيجي. تفهمت أيضاً حق مذيع مخضرم في قناة نافذة في أن يسبغ على برامجه سمعة التعمق والبحث في أصول الخبر وتفرعاته في العلوم والميادين الأخرى بأن يمنح المتحدثين في البرنامج صفة الاستراتيجيين حتى لو كان موضوع النقاش محلي الطابع ومحدود الأبعاد. ما يحدث معي كمشاهد حريص على أن يفهم الخبر ويستفيد من تحليل موضوعي مناسب هو الشك في جدية القناة وصدقية البرنامج وأهمية التحليل.
جلست مشدوهاً أستمع إلى خطابات وتصريحات بعض قادة الدول الأعضاء المشاركين في المؤتمر. كان هذا المؤتمر الذي هو بحق، وحسب أي تعريف موضوعي المؤتمر، سوف يناقش موضوعات لها جوانب استراتيجية. لم أعرف أن الميديا ولغتها المتدنية أثرت إلى حد مزرٍ في خطابات بعض القادة والمسؤولين عن استراتيجيات الحلف إلا بعد أن تكرر استخدام كلمة استراتيجية لتصف أوضاعاً لا علاقة لها بالتخطيط أو التنسيق بين مختلف مصادر القوة. سمعتها بالإنجليزية تسبق عبارة استقلال ذاتي، وسمعتها مرة ثانية تسبق كلمة صبر، وسمعتها مرة ثالثة تسبق كلمة حضن. تقبلت أن يطالب قائد سياسي بتحقيق شراكات استراتيجية مع دول غير أعضاء في الحلف، لكني لم أتقبل أن تبنى علاقات الأعضاء على «الأحضان الاستراتيجية»، أو أن يقال عن الحلف إنه يمر بفترة «ضجر استراتيجي».
لم يقتصر التدني في المستوى على صياغة خطابات المؤتمر. إذ لاحظت، كما لا شك لاحظ ملايين المشاهدين، الحال المتدني لسلوكيات أعضاء القمة، سواء في اجتماعاتهم غير الرسمية أو في تصريحاتهم أمام الميكروفون. هؤلاء الذين يعرفون أكثر من غيرهم قوة التنصت الرهيبة التي اكتسبتها مؤخراً كاميرات التصوير وهي تصور ولو عن بعد بعيد. كان يجب أن يحسنوا التصرف بالكلام أو بغيره في وجودها.
ثانياً: كشف هذا المؤتمر أكثر من أي مؤتمر سابق للحلف عن حال تخبط يزداد تفاقماً. يبدو لك وأنت تستمع إلى حوارات الزعماء أعضاء الحلف أنك أمام مجموعة حائرة بالفعل لا تعرف ماذا تفعل لتصحيح أوضاع حاضر مرتبك بينما صارت بعض أوضاع المستقبل، مثل التعامل مع الصين، حاضرة وتحاول بالقوة فرض نفسها على جدول الأعمال. هناك أيضاً قضايا الخلاف المكتوم بين الأعضاء المؤسسين والأعضاء المنضمين لاحقاً. يقول المنضمون لاحقاً إن أغلب المؤسسين لم يعودوا يعتبرون روسيا خطراً داهماً، بينما هم، أي المنضمون لاحقاً، متشبثون بضرورة أن يستمر الحلف في التعامل مع روسيا باعتبارها العدو الأول. هنا اكتشفت أيضاً أنني لم أكن ملماً بتفاصيل الخلافات الكثيرة الناشبة حول أولويات الحلف. أعرف طبعاً أن الاتفاق على هوية العدو والتهديد الذي يشكله هما السبب والمبرر لوجود الحلف والانتساب له. تأكدنا خلال الأيام الثلاثة، أيام انعقاد المؤتمر، أن تركيا لا تعترف بروسيا عدواً. العدو للحلف هو الإرهاب، ولتركيا بخاصة هو إرهاب الأكراد. كان ريتشارد هاس، رئيس المجلس الأميركي للشؤون الخارجية، محقاً عندما قال عن تركيا، هي دولة عضو في الحلف، لكنها ليست من الحلفاء. أستطيع الآن أن أفهم وصف سائد لدى قطاع في حلف الأطلسي يسمي دولاً من خارج الحلف كالدول الخليجية مثلاً بالدول الحليفة وهي ليست من أعضاء الحلف. ومع ذلك لم أفهم تعريف الرئيس دونالد ترمب للعدو حين حدد الثروة الصينية المتصاعدة بأنها عدو لحلف الأطلسي. ليست الصين، لكن ثروتها. بمعنى آخر، يحتفل الأعضاء بالعيد السبعيني لحلفهم التليد وهم لم يقرروا بعد معايير لتعريف الحليف ومعايير لتعريف العدو.
يبقى في النهاية، أن الحلف، رغم كل شيء، لا يزال صامداً في وجه ضغوط شتى. عادت الدول تستجيب لتسديد التزاماتها المالية بنسب متصاعدة. يشهد الحلف في الوقت نفسه حرية أوسع للدول الأعضاء في ممارسة استقلال الإرادة والرأي. فرنسا من ناحية تسعى لتأكيد حقها في تكوين «حليفات»، أقصد أحلافاً صغيرة، متناثرة داخل الحلف الرئيس وخارجه، لكل منها قضيته ينشأ من أجلها وينفض بحلها. ومع ذلك، غضبت حين انفردت تركيا وأميركا بقرار في سوريا وبالتعاون مع روسيا دون استشارة بقية أعضاء الحلف. تركيا أثبتت حقها في التصرف فيما يخص أمنها الإقليمي وعدم انتظار قرار تصدره أو تعطله بيروقراطية الحزب ومصالح الدول الأعضاء. كان يمكن للحلف أن ينشق على وقع الخطورة التي يمثلها القرار التركي، لكنه صمد.
يبقى أيضاً أن الحلف، إن قرر ذات يوم وعمل على أن تكون الصين، أو مجرد ثروتها، عدواً أساسياً فسوف يتعين عليه أن يواجه حقيقة ظلت كامنة على امتداد أجواء عداء مع روسيا، لكنها في أجواء عداء مع الصين سوف تصبح ماثلة وصريحة، وهي أنه حلف «الرجل الأبيض» في مواجهة الآخر، بكل ما تحمله هذه العبارة من معانٍ واحتمالات يكشفها المستقبل.
7:44 دقيقه
TT
حلف شاخ وماتت دماغه وانتهت صلاحيته وزاغت عيونه
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة