د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

حلف «الناتو» وسيناريو «الموت السريري»

من مفارقات قمة «الناتو» التي ستعقد في لندن بعد يومين، بمناسبة مرور 70 عاماً على إنشاء الحلف واستمراريته رغم تغير البيئة الدولية منذ الإنشاء حتى الآن، أن البلد المُضيف يبدو أكثر حرصاً على تماسك حلف «الناتو» كمنصة لضمان الأمن لأوروبا والعالم معاً، في الوقت الذي سوف يخرج فيه من الاتحاد الأوروبي بعد شهرين أو ثلاثة على الأكثر، حسب تأكيدات رئيس الوزراء بوريس جونسون.
طبيعة هذه المفارقة ودلالتها تعكس الفارق بين الالتزام لدوافع أمنية لغرض تحقيق مزيد من الأمان في مواجهة التهديدات المتصورة إدراكياً أو الفعلية واقعياً، وبين البحث عن خصوصية اقتصادية لا تضيع في إطار أكبر يسعى إليها قطاع من السياسيين والمواطنين.
تناقض حالة بريطانيا في ظل «الناتو» والاتحاد الأوروبي، يمثل واحدة من مشكلات الالتزام والانضباط داخل أطر نظامية جماعية ذات أهداف بعيدة وسياسات تطبيقية محددة. وحالة «الناتو» الآن بعد عمر سبعة عقود يفترض فيها النضج وتطور القدرات الذاتية، إلى الحد الذي يؤكد التماسك والترابط الداخلي، أما واقعياً فثمة تشكك في درجة هذا النضج، وفي القدرة على التكيف مع وقائع العالم المعاصر. والتكيف المقصود هنا له شقان: جماعي، أي كل الأعضاء، وفردي يخص كل عضو فقط. وما تصريحات الرئيس ماكرون التي وصف فيها الحلف بالموت السريري، وأثارت الجدل حول مدى إدراك الحلف كمنظمة جماعية للتهديدات الداخلية والخارجية الجديدة، إلا انعكاساً مباشراً لهذا التشكك، والذي يعود في شق منه إلى ضبابية الموقف القيادي الأميركي في الحلف، وخروج بعض الأعضاء عن تقاليد الحلف التي تفرض نظرياً التنسيق قبل الإقدام على أي تحرك عسكري، ثم مصير المادة الخامسة التي تفرض التضامن الجماعي حال تعرض أحد الأعضاء لهجوم من طرف خارجي، في الوقت الذي يجهل فيه الحلف مغامرات العضو المُعرض للهجوم.
الحل الذي انتهى إليه عضوان بارزان في «الناتو» وفي الاتحاد الأوروبي، وهما فرنسا وألمانيا، بالعودة إلى مجلس حكماء الحلف وتشكيل لجنة لمعالجة تلك المخاوف التي عبر عنها الرئيس ماكرون، ولوضع حلول وتوصيات يقرها لاحقاً قادة الحلف في قمتهم العام المقبل، يدلل على أن أفكار الرئيس ماكرون لها صدى لدى الآخرين، ولكن ليس بالدرجة نفسها من الاهتمام، أو الرغبة في إيجاد مخارج تعين الحلف على البقاء كمنظمة متماسكة ذات باع في شؤون الأمن العالمي بشكل كلي.
نلاحظ هنا أن أدبيات الحلف منذ أكثر من عقد مليئة بالتحليلات ذات الطابع المستقبلي، والتي ناقشت كثيراً من القضايا والعوامل التي يمكن أن تؤثر على بقاء الحلف ذاته، واقترحت حلولاً نظرية وعملية ما زال بعضها مفيداً للغاية، وأعتقد أن لجنة الحكماء حين تتعامل مع انتقادات الرئيس ماكرون، ومن قبل انتقادات الرئيس ترمب بخصوص عدم التزام الأعضاء بالإنفاق العسكري المحددة نسبته بـ2 في المائة من الناتج القومي لكل عضو، كما اتفق عليه في عام 2014، لن تخرج عن السيناريوهات الخمسة التي حددتها دراسة نشرتها مجلة «الناتو» في نسختها الإلكترونية صيف عام 2006، عن مستقبل الحلف في عام 2025، والتي أجراها باحثان مهمان، وهما ستيفن دو سبيغلير مدير برنامج التحول الدفاعي بـ«مركز كليجندايل للدراسات الاستراتيجية» في لاهاي، والباحثة ريم كورتيويغ بالمركز ذاته.
ويستند كل سيناريو إلى افتراض معين يستدعي بدوره نتائج محددة:
أولها سيناريو «القدرات القوية»، ويفترض دوراً قيادياً أميركياً قوياً في الحلف، وتصوراً أمنياً راسخاً ومحدداً بصورة مشتركة، وإدراكاً موحداً للتهديدات على طرفي المحيط، وأيضاً أوروبا ضعيفة ومفككة نسبياً، وتفتقر إلى السياسة الأمنية والدفاعية المتماسكة، ولكنها ملتزمة بالقيادة الأميركية.
والسيناريو الثاني يعنى بشراكة تُبنى على تقاسم الأعباء، ويفترض خليطاً من المشاركة الأميركية القوية والمؤثرة في حلف «الناتو» وأوروبا متماسكة وقوية، وتسعى إلى تعزيز الوحدة السياسية، وتصور مشترك للتهديدات تعقبه إجراءات وسياسات غير قابلة للنقاش، لمواجهة تلك التهديدات بصورة جماعية.
ويشير السيناريو الثالث إلى تحول الحلف إلى مجموعة أقل تماسكاً وذات أدوات متفرقة، تفتقر التنسيق الداخلي، وقيادة أميركية فاترة، ومستوى متوسط من التماسك الأوروبي، وانعدام التصورات الموحدة بشأن التهديدات، ومستوى التزام أقل من كل الأعضاء.
أما السيناريو الرابع فيعنى بقيادة أوروبية للحلف، بعد وصولها إلى أكبر درجة ممكنة من التماسك، وهوية أوروبية مشتركة، يقابلها التزام أميركي أقل، وغياب الرؤية المشتركة بين جانبي الأطلسي للتهديدات المشتركة.
أما السيناريو الأخير، وهو الأكثر تشاؤماً، فيرى الحلف وقد تحول إلى مجرد ساحة تتجمع فيها القوى القديمة ولكن من دون فعالية جماعية، ويفترض غياباً كاملاً للالتزام الأميركي نحو الحلف، وأوروبا فاقدة للتماسك الداخلي، وبروز تصورات متباينة للتهديدات المشتركة، وتحركات منفردة للأعضاء من دون أدنى اعتبار للتنسيق مع الحلف. بعبارة أخرى: أن يبقى الحلف ولكن بلا فاعلية وبلا دور.
واقع الأمر، وبتأمل الأوضاع التي يعيشها الحلف في الوقت الراهن وقبل خمس سنوات من المدى المحدد في الدراسة، نجد أنه يمزج بين بعض عناصر السيناريوهيْن الثالث والرابع، وإذا استمرت العناصر السلبية في كليهما في السنوات المقبلة، فمن الطبيعي أن يصل الأمر إلى السيناريو الخامس، أي حلف على الورق؛ بلا فاعلية في الواقع. ولذا فإن مهمة لجنة الحكماء يفترض أنها ستعمل على تقديم التوصيات والاقتراحات اللازمة لمنع هذا التطور من جهة، وتعزيز اعتبارات ومعايير تؤدي إلى اقتراب الحلف من أحد المشهدين الأول أو الثاني، وهما الأكثر إيجابية بشكل عام. مع الأخذ في الاعتبار أن الأمر سيظل مرهوناً أولاً وأخيراً بمدى التزام الأعضاء بتلك المعايير إذا اتفق عليها، وهي مسألة ستواجه بتحديات كبيرة، لا سيما في ظل استمراء البعض السلوك الفردي لتحقيق مصالح ذاتية لا علاقة لها بالحلف ولا بمصالح أعضاء آخرين، كما تفعل تركيا، وأيضاً في ظل تعدد التصورات إزاء التهديدات الحالية والمستقبلية، ونزوع مجموعات فرعية لتحديد أولويات دفاعية للحلف تخصها دون الآخرين، مثل تصورات بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، في حين يعارضوها آخرون ويضعون بدورهم تهديدات أخرى تخصهم وحدهم وإلا فلن يلتزموا.
وفي كل السيناريوهات المتوقعة، يظل الالتزام الأميركي بدور قيادي فاعل شرطاً أساسياً لبقاء الحلف كمؤسسة أمنية ودفاعية فاعلة في الأمن الأوروبي والعالمي معاً. وإذا استمرت توجهات الولايات المتحدة الضبابية التي يعبر عنها الرئيس ترمب لعدة سنوات أخرى، فلن يسلم الحلف من مصير السيناريو الخامس والأسوأ، أي البقاء، ولكن في حالة «الموت السريري» حسب تعبير الرئيس ماكرون.