خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بكائية شاعر

لا ينفك شعراء وأدباء الغربة من بث همومهم عن ابتعادهم من بلادهم. كان من هذه الزمرة الشاعر يوسف عز الدين، رحمه الله، وزميله جليل العطية. كان كلاهما من أدباء العراق، وكانت فرقتهما غير قاصرة على ابتعادهما من بلدهما، وإنما عن بعضهما البعض. فقد جر الأدب يوسف عز الدين إلى بريطانيا لإنجاز شهادة الدكتوراه في جامعة لندن، ثم أقام فيها مع زوجته وأولاده حتى توفاه الله في ويلز قبل سنوات قليلة، في حين أن جليل العطية أكمل دراسة الدكتوراه في فرنسا، وهو الآخر جرته الدراسة إلى التعلق بذلك البلد، فاتخذه وطناً له. وهذا موضوع يلفت النظر. فكثيراً ما تجر الدراسة إلى التعلق بموطن دراسة الشخص ثم إقامته فيه.
وهذا في الواقع ما حصل لي شخصياً. جئت للدراسة في لندن عام 1953، وإذا بي أتزوج بواحدة من بناتها، وأنجب أولادي فيها. وها أنا في عام 2019 وما زلت مقيماً هنا. وفي هذا درس لطلاب الدراسة. لا تفكر في اختيار موضوع الدراسة فقط، بل فكر في البلد الذي تفضل العيش والموت فيه. فأكبر احتمال أنك ستتعلق به، وتدفن في تربته، ما لم توصِ بحرق جثتك.
بيد أن الحنين لوطنك وأصحابك سيبقى معششاً في قلبك. وهذا ما حصل لهذين الأديبين الكاتبين. تملك الشوق بمشاعر أبي أسيل، الدكتور يوسف، فتناول القلم، وسطر هذه الأبيات العاطفية البكائية، وبعث بها إلى زميله الدكتور جليل العطية:

أجليل قد هيجت لي شجني وأثرت شوق الروح للوطن
فبكيت في ألم لفرقته والدمع يدفق ريق المزن
ما أصعب الشكوى على رجل يمسي سجين الفكر والبدن
ذكرت أيام الصبا سلفت فسمعت ضحكة ذلك الزمن
أين الرصافة قد غدت أملاً وتعيش في صحوي وفي وسني
أجليل هل للربع نلثمه ونظمه في القلب والحضن
أأخي، يا حلو الوداد زكا أصل كريم المنبت الحسن
سوق السراي وقشلته من ذكريات العلم في السكن
أحقاً سأمشي في أزقته وضجيج ذاك السوق في أذني
بغداد يا نبع الصبا كرمت جادت على الدنيا بلا منن
الغربة الحمقاء تسحقني وتلفني بالهم والشجن
بين الصحاب وحسن مجلسهم ذهبوا وخلوا القلب في محن
وبقيت أذكرهم وأندبهم أسقي الثرى من دمعي الهتن
واليوم أرثي النفس بعدهم مذ لف خير الجمع بالكفن
ذكرتني بأحبة ذهبوا كانوا شموع الفضل في القنن
يا ليت هل نمضي إلى أجل أم أن لي بعضاً من الزمن