مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

عَلم في رأسه نار

سوف أفسح المجال اليوم في عمودي لـ«طيرة شلوى» المرأة الشاعرة –تحديداً بالمراثي- أما المرأة الندابة التي ما عندها غير البكاء والصراخ وتنتيف الشعر وتمزيق الملابس والتمرغ في التراب، فليس لها مكان هنا، 80% كله عن الرثاء، و20% عن صاحبة القلب الأخضر.
طبعاً لا بد أن أبدأ بملكة الرثاء العربي الخنساء التي رددت الأجيالُ لوعتها بأخيها صخر عندما قالت وهي تفتخر به:
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به كأنه عَلم في رأسه نار
وها هي سلمى بنت الأحجم ترثي إخوتها الثلاثة وكل منهم في بلد يقاتل:
رعوا من المجد أكنافاً إلى أجل حتى إذا بلغت أظماؤهم وردوا
ميتٌ بمصر وميتٌ بالعراق وميتٌ بالحجاز منايا بينهم بدد
كانت لهم همم فرّقن بينهم إذا القعاديد عن أمثالهم قعدوا
فعل الجميل وتفريج الجليل وإعطاء الجزيل إذا لم يعطه أحد
وإليكم سارة القريظية العربية اليهودية في زمن الجاهلية، ترثي قومها وتهجوهم في نفس الوقت، عندما قتل أبو جبيلة الغساني أشراف اليهود بسبب فحشهم.
بنفسي أمّة لم تغن شيئاً بذي حرض تعفيها الرياح
كهول من قريظة أتلفتهم سيوف الخزرجية والرماح
رُزئنا والرزية ذات ثقل يمر لأجلها الماء القراح
ولو أربوا بأمرهم لجالت هنالك دونهم حرب رداح
وها هي جارية تنوح على قبر المأمون وتتوجد على أيام العز و«البغددة» التي كانت هي فيه:
إنّ الزمان سقانا من مهارته بعد الحلاوة أنفاساً فأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
وأختم بصاحبة القلب الأخضر اللعوب المغناج، وهي جارية أندلسية اسمها أنس القلوب – وهو اسم على مسمّى - وهي تقول في جلسة طرب وسهر عند سيدها المنصور بن أبي عامر، وأخذت تغني:
قدم الليل عند سير النهار وبدا البدر مثل نصف سوارِ
فكأن النهار صفحة خد وكأن الظلام خط عذارِ
وكأن الكؤوس جامد ماء وكأن المدام ذائب نارِ
نظري قد جنى عليّ ذنوباً كيف مما جنته عيني اعتذاري
يا لقومي تعجبوا من غزال حائر في محبتي وهو جاري
ليت لو كان لي إليه سبيل فأقضي من الهوى أوطاري
وغضب المنصور بسبب ما قالته، فأغلظ في كلامه يسألها أن تَصدقه إلى من تشير بهذه المعاني، فبكت وطلبت منه العفو وهي تقول وتتعتع بالغناء:
أذنبت ذنباً عظيماً فكيف منه اعتذاري
والله قدّر هذا ولم يكن باختياري
والعفو أحسن شيء يكون عند اقتدار

ملاحظة: «طيرة شلوى» هي أنثى الصقر.