جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

زوبعة بين حليفين

حينما كان السيد جورج شولتز وزيراً للخارجية الأميركية من 1982 - 1989 في إدارة الرئيس رونالد ريغان، كان يستقبل كل سفير في مكتبه قبل مغادرته البلاد لشغل مهامه. ويقال إن شولتز كان يُجلس السفير على كرسي أمام خريطة للعالم ويطلب منه أن يضع إصبعه على البلد الذي سيخدمه، فكان كل سفير يضع إصبعه على خريطة البلد المقصود. لكن السيد شولتز كان يبدي اعتراضه، ويقوم من مقعده، مشيراً بعصا صغيرة إلى خريطة الولايات المتحدة، قائلاً للسفير: هذا هو البلد الذي ستخدمه.
يقول أبو محسَّد:
أبنتَ الدَهرِ عندي كُلُّ بنتٍ
فكيف وصلتِ أنتِ من الزحامِ؟
قالها واصفاً حُمّى أصابته فأقعدته، وألزمته الفراش، تذكرته هذه الأيام، تابعت في وسائل الإعلام المختلفة تطورات الزوبعة أو الأزمة بين الحليفين التاريخيين، المملكة المتحدة والولايات المتحدة، على خلفية تسريب تقارير دبلوماسية سرية مرسلة من السفارة البريطانية بواشنطن، أرسل بها السفير السابق السير كيم داروك، إلى وزارة الخارجية في لندن، ووجدت طريقها إلى صحيفة «الديلي ميل»، فقامت بنشرها حصرياً، فأقامت الدنيا في العاصمتين، ولم تقعدها حتى الآن.
التقارير المُسرّبة قدمت وصفاً سلبياً لإدارة الرئيس دونالد ترمب، ملصقة بها نعوتاً مثل عدم الكفاءة، وغيرها، الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس ترمب، فسارع، كعادته، إلى موقع حسابه على «تويتر»، وبدأ في إرسال تغريدات، ضد السفير البريطاني شخصياً. وتطورت الأمور بسرعة جعلتها تخرج عن نطاق السيطرة في العاصمتين، الأمر الذي دفع بالسفير إلى تقديم استقالته، بعد أن تأكد له أنه صار غير مرغوب فيه في البلد المضيف، وبالتالي، لن يكون قادراً على القيام بواجباته المنوطة به.
المشترك بين حالة المتنبي والزوبعة التي أحاطت بالحكومة البريطانية، هو التوقيت. فالحُمّى كانت آخر ما كان يريده المتنبي، من مصائب تضاف إلى ما عنده وما يعانيه؛ لذلك، استغرب جداً من أن تجد لها طريقا إليه من وسط زحمة ما كان يثقل بدنه وفكره... الشيء نفسه ينطبق على الحكومة البريطانية. فقد جاءتها الزوبعة في وقت حرج وسيئ، وفي ظروف مثقلة بالمشاكل السياسية الداخلية، المتولدة عن أزمة الخروج من الاتحاد الأوروبي، التي قسمت البلاد إلى شظايا، وأصابت البرلمان بالشلل، والحكومة بالعجز. فكيف، بحق، وسط كل زحام المشاكل والأزمات، وجدت هذه الأزمة الجديدة طريقها؟ وكيف لها أن تأتي في وقت، يكاد كل سياسي في قرية ويسمنستر لا يجد وقتاً حتى لِحَكّ شعر رأسه؟ والأهم من ذلك، أن الطرف الآخر فيها، رئيس دولة الولايات المتحدة، دونالد ترمب، الحليف الاستراتيجي لبريطانيا، والشريك المرجو تجارياً في فتح الأبواب أمام بريطانيا لكي تبدأ مسيرتها الجديدة، خارج الاتحاد الأوروبي.
رئيسة الحكومة السيدة ماي، وهي تتهيأ لمغادرة 10 داوننغ ستريت، تصرفت، رغم الإحراج الشديد، بعقلانية ومسؤولية، بأن أدانت التسريب، ثم قدمت دعمها للسفير علناً، وقالت إن تقاريره تمثل وجهة نظره، وليس وجهة نظر الحكومة. السيد بوريس جونسون، أكثر المترشحين الباقين حظوظاً لشغل مكتب السيدة ماي، ووزير الخارجية السابق، أجرى حساباته بسرعة، وقرر عدم الخوض في الموضوع، معرضاً عن تقديم دعمه للسفير. لكنه حين دُفع إلى اتخاذ موقف، أدان فعل التسريب ومن قام به. هذا التصرف المحسوب وصف بالجبن من قبل المرشح الآخر، وزير الخارجية الحالي، جيرمي هانت، وهاجمته وسائل الإعلام، واعتبرته إلقاء السفير أمام حافلة للتخلص منه.
الحقيقة أن تقارير السفير السير كيم داروك إلى رؤسائه في وزارة الخارجية البريطانية كانت جزءاً من حزمة كبيرة من الواجبات المنوطة بالسفراء. فمن أين لأي حكومة أن تعرف ما يجري وراء حدودها، من دون تقارير السفراء والأجهزة الأمنية، ووسائل الإعلام باختلافها. السفراء موظفون عموميون اختيروا لخدمة ولتمثيل بلدانهم في الخارج، والدفاع عن مصالحها وتطويرها، وليس، من ضمن تلك المهام، التغزل في رؤساء البلدان المضيفة، أو حكوماتها.
السفير السير كيم داروك قال، في رسالة استقالته، إن الضرر الناجم عن الأزمة ليس في التسريب وإنما ما نشأ عنه من تكهنات وتوقعات حول مستقبله. صحيفة «الغارديان» قالت في افتتاحيتها، يوم 10 يوليو (تموز) الحالي إن «التمييز بين الأمرين مهم؛ لأنه لو قدم رئيس الوزراء المحتمل دعمه اللامحدود للسفير لتغير الأمر، ولظهرت بريطانيا في جبهة سياسية موحدة في وجه تغريدات الرئيس ترمب الغاضبة، ولكانت ساهمت في السيطرة على الموقف وتقليل الضرر الذي سيحيق بالعلاقات بين البلدين».
افتتاحية صحيفة «التايمز»، أدانت، هي الأخرى، موقف المرشح للزعامة بوريس جونسون غير الداعم للسفير.