نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

لنتخلص من الرصاص قبل أن يدمر المزيد من الأرواح

عندما كنت طفلاً كان والدي يسخر من أن الإمبراطورية الرومانية سقطت، لأن الرومان كانوا يستخدمون الرصاص في صناعة أنابيب المياه، ما أدى إلى تسمم إمدادات مياه الشرب.
حتى سن السابعة كان من الصعب عليَّ تصديق ذلك، لكن حدثت بعض المواقف لاحقاً جعلتني أميل إلى تصديق ذلك الزعم. فقد ظهرت بعض الأدلة الحاسمة على أن الرصاص مادة سامة يمكنها إحداث تغييرات دائمة ومدمرة على العقل البشري والحياة الإنسانية بصفة عامة. فالرصاص لا يزال موجوداً في كل مكان بالولايات المتحدة.
شأن الرومان، تستخدم الولايات المتحدة الرصاص لتوفير المياه، إذ إن ثلث أنظمة المياه في الولايات المتحدة تستخدم أنابيب الرصاص. وحتى قبل بضع سنوات فقط كان من الممكن بيع مستلزمات السباكة التي تحتوي على ما يصل إلى 8 في المائة من الرصاص على أنها «خالية من الرصاص». وعندما تتآكل هذه الأنابيب يبدأ الناس في استهلاك الرصاص. وبهذه المناسبة، لا أريد منك أن تنخدع بالمياه الصفراء ذات اللون البني التي تخرج من الأنابيب بمدينة فلينت بولاية ميشيغن المعروفة بتلوث مياهها بالرصاص، حيث إن تغيير اللون لا علاقة له بذلك، لأن الرصاص في مياه الشرب عديم اللون والطعم والرائحة.
الناس يتنفسون ويأكلون الرصاص أيضاً، والعديد من المنازل التي بنيت قبل عام 1978 تحتوي على طلاء من الرصاص، والجدران أحياناً تكون مدفونة تحت طبقات الطلاء الحديثة، عندما تتآكل رقائق الرصاص القديمة أو الشقوق، أو تتفتت، أو تتآكل، بسبب الماء، تخرج جزيئات الرصاص ويبتلعها الأطفال ويستنشقونها. والأسوأ من ذلك هو أن غبار الرصاص غالباً ما يصل إلى التربة، ويمكن أن يصل إلى النباتات في الحدائق، ويلهو بها الأطفال، بل يمكن أن يلوث إمدادات المياه المحلية.
عندما يبتلع الأطفال الرصاص يجري تخزينه في العظام والكلى والكبد والمخ. وما زال العلماء يواصلون محاولات الوصول إلى الطرق التي تؤدي إلى الإضرار بوظيفة الدماغ، لكن ذلك لا يفسر كيفية حدوث تلف الدماغ، ومن ثم تغيير السلوك والوعي.
الطريقة الوحيدة لتحديد ذلك هي فحص سلوك الأطفال الذين تعرضوا للرصاص (لأن الأطفال أكثر عرضة لتأثيرات المعدن). فالأطفال ذوو المستويات المرتفعة من الرصاص في دمائهم يعانون من سوء نتائج الاختبارات الدراسية، وصعوبة في التركيز والانتباه وفي غيرها، بالإضافة إلى علامات التراجع الظاهرة.
في الماضي، كان الأطفال الذين يحملون كمية من الرصاص تصل إلى 10 ميكروغرامات لكل ديسيلتر هم من تعرضوا للرصاص. لكن عدداً من الدراسات التي أجريت في مختلف أنحاء العالم أظهرت أنه حتى المستويات الأقل من ذلك يمكن أن تكون لها تأثيرات ضارة كبيرة على وظائف المخ. لذلك على الرغم من انخفاض المستويات الرسمية للتسمم بالرصاص بشكل كبير في الدول الغنية - خصوصاً بعد حظر استخدام البنزين المحتوي على الرصاص - لا يزال هناك عدد كبير من الأطفال الأميركيين الذين يتعرضون لتغيير كبير في شخصياتهم وقدراتهم المعرفية.
ولعل أسوأ نتائج هذا التلف الصامت في الدماغ هي الجريمة. في الواقع، لم يمل كيفن درام، الكاتب بمجلة «موذر جونز»، من جمع الأدلة التي لا حصر لها على وجود تلك العلاقة، حيث يركز جانب كبير من بحثه على التأكد من أنه ليس الفقر ولا العوامل الاجتماعية وحدها هي سبب الجريمة.
على سبيل المثال، خلص بحث أجرته أنا أزير وجانيت كوري عام 2018 إلى أن البنزين المحتوي على الرصاص، وقرب سكن العائلات من الطرق، كانت سبباً للتوقف عن الدراسة واحتجاز الأطفال الصغار في مراكز رعاية الأحداث في منطقة رود آيلاند. وخلص البحث أيضاً إلى أنه عندما يصل الرصاص إلى الدم بمقدار ميكروغرام واحد لكل ديسيلتر، فإن احتمال إرسال صبي لمركز احتجاز الأطفال يتراجع بنسب تتراوح بين 27 في المائة إلى 74 في المائة.
وظهرت التأثيرات الأكبر على الأولاد الأميركيين الفقراء ذوي الأصول الأفريقية، إذ إن معظم هؤلاء الطلاب لديهم مستويات من الرصاص في الدم أقل بكثير من الحد الرسمي للتسمم بالرصاص، ما يدل على الآثار المدمرة للمعدن، حتى وإن كانت بنسبة بسيطة.
أثار بحث أجراه خبيرا الاقتصاد ستيفن بيلينغز وكيفن شنيبل عام 2019 السؤال من زاوية أخرى مهمة، حيث حدد الخبراء الأطفال الذين تعرضوا لتسمم الرصاص، الذين كانوا مؤهلين لتلقي العلاج لخفض نسبة الرصاص في دمهم بمدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا، مقارنة بالأطفال الذين لم يتلقوا علاجاً. وبتتبع الأطفال طيلة حياتهم، تبين أن معدلات الجريمة أقل بكثير بين أولئك الذين تلقوا علاجاً.
دراستان فقط أجريتا بصورة سليمة وسط مجموعة متزايدة من الأدلة على وجود علاقة بين الرصاص والجريمة. يشير هذا الدليل إلى أن تنظيف طلاء الرصاص واستبدال أنابيب الرصاص وإزالة الرصاص من التربة يمكن أن تكون له آثار مفيدة كبيرة على تلك المدن التي لا تزال تعاني من ارتفاع مستويات العنف.
إن قضية التنظيف من الرصاص لا تمثل أهمية كبيرة لمعظم مرشحي الرئاسة عن الحزب الديمقراطي. الاستثناء الوحيد هو تكسان جوليان الذي أعلن عن خطة شاملة ومفصلة لعلاج مشكلة الرصاص، والكشف عنه، في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. يمكن للخطة التي تتكلف 5 مليارات دولار فقط سنوياً لمدة 10 سنوات - وهي نسبة ضئيلة في الميزانية الفيدرالية - أن تفعل الكثير لتخفيض مستويات العنف والجريمة والجنوح في المدارس وغيرها من أشكال الأمراض الاجتماعية في البلاد. دعونا نأمل أن يتبع المرشحون الآخرون النهج نفسه قريباً.
التسمم بالرصاص لن يدفع بالولايات المتحدة للسير في طريق روما القديمة، فقط حال قمنا بتنظيف بلادنا من كل الرصاص الموجود بها.

- بالاتفاق مع {بلومبرغ}