محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

تهزمنا الثقافة

القضية التي سوف يكثر الحديث عنها في الإعلام التركي المُعرب، والإيراني المُعرب، هي «صفقة القرن»، وسوف يتخذان من ورشة المنامة، المقرر أن تعقد آخر الشهر - وهي ورشة اقتصادية تتوجه إلى 4 قضايا في الساحة الفلسطينية، هي البنية التحتية، والصناعة، والاستثمار البشري، والإصلاحات الإدارية - منصةً للعويل، للتغرير بالرأي العام العربي، بأن هناك من «يبيع القضية الفلسطينية»، وهم العرب، ومن يشتريها، وهم الأتراك والإيرانيون ومناصروهم، وفي ذلك تضليل ما بعده تضليل.
القضية الأولى منذ أن سميت بذلك وهي ضحية للطموحات السياسية في الجوار، وقد عانت بسبب ذلك كل هذا التراجع وكل ذلك الألم الذي يعاني منه المواطن الفلسطيني، ولم تقدر لها قيادة تستطيع أن تتعلم من تجربة أعدائها بشكل يسمح لها بالدفاع، ومن ثم نيل حقوقها المشروعة.
إن معظم - وأكاد أقول الكل - اللغط الإعلامي الحاصل هو ليس حباً في فلسطين، ولكن حباً وعشقاً للتوسع والنفوذ، وأنت تسمع الآن صوتاً عالياً ينادي بأن القضية الفلسطينية ليست خاصة بالعرب، في خلط فاضح بين المقاومة والمقاولة! وذلك من أجل التغلغل أكثر وأكثر في الشأن العربي.
من الجلي أن لا أحد لديه حتى الآن نسخة نهائية لما عُرف في الإعلام بأنه «صفقة القرن»، وكل ما يقال حولها هو أفكار مرسلة، حتى التسمية قد فُرضت علينا. هي في أقصى ما تسعى إليه اقتراحات سياسية من الإدارة الأميركية، يمكن أن تُقبل من الجانب الفلسطيني والإسرائيلي، ويمكن أن تُرفض، ولم يقدم أحد للقضية الفلسطينية كما قدّم العرب. كل ما يعتقده بعض القادة الفلسطينيين من أن خيراً ما سوف يأتيهم من عواصم مثل أنقرة أو طهران هو وهم، يعمل بعض المستفيدين على ترويجه. وليس خافياً أن أنقرة كانت وما زالت لها علاقات تاريخية بإسرائيل، وأن التبادل التجاري بينهما كان ولا يزال في أوجه، ويزداد. أما طهران فرغم أنها تقول إنها تحتفظ بصواريخ من أجل تحرير فلسطين فإن هذا القول لا يتجاوز حناجر قائليه، فإذا كانت هناك تلك الصواريخ، فماذا تنتظر لتفعيلها إذاً!
إن الموقف العربي الصادق هو الذي حمل القضية، وما زال، ووضع مشروع الدولتين. وكان الجهد المنظم والحثيث للإدارة السعودية لتثبيت الفكرة. وقد حقّقها المرحوم الملك عبد الله، بمساعدة المرحوم الأمير سعود الفيصل. والقصة رويت بتفاصيلها أكثر من مرة، وبعضها كُتب من قِبل أولئك الذين شهدوها.
أما الدعم المالي الحقيقي فقد كان ولا يزال من العواصم العربية. هذا إلى جانب الدماء العربية التي قدمت عن طوع في حروب عدة مع إسرائيل، كلها دون استثناء دماء عربية. يخطئ بعض القادة الفلسطينيين بخروجهم من جلدتهم العربية، بل التحريض ضدها، مسايَرة لتصريحاتٍ وبضعِ قطعٍ من سلاح لم تحرر شبراً واحداً من فلسطين، ولن تفعل.
واحد من الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها بعض القيادات الفلسطينية في السابق هو الاصطفاف في المحاور العربية أو الإقليمية؛ فذلك خطأ تاريخي يتكرر بسبب الثقافة السياسية. ولن أعود إلى الماضي؛ فقد حمل الكثير من الخطايا التي أثّرت سلبياً على القضية بسبب ذلك الاصطفاف.
لقد تكرر من كثيرين من المتابعين العرب أو غيرهم أن الاحتلال للأرض الفلسطينية جاء من خلال استعمال العلم الحديث والتنظيم المنضبط والمناورة السياسية المحكمة من قبل الحركة الصهيونية. ولعل قصة ديفيد بن غوريون مع البرلمان البريطاني معروفة، وتدرس في فنّ المناورة؛ حيث قررت الحكومة البريطانية إبان الحرب العظمى الثانية أن تتراجع عن وعد بلفور بعد الحرب، وأصدرت ما يعرف بالكتاب الأبيض كخطوط عريضة للتشريع في ذلك الاتجاه، وخطب بن غوريون، الذي لم تعجبه تلك الخطة ولا المنظمة الصهيونية، في البرلمان قائلاً: «سوف نخوض معكم الحرب، وكأن الكتاب الأبيض غير موجود، وسوف نحارب الكتاب الأبيض، وكأن الحرب غير قائمة»، أي أن هذا ملف، وذاك ملف آخر. إن فصل الملفات والتعامل معها بحذاقة، هو نصف كسب المعركة، والاستمرار في التعامل العاطفي مع القضايا المصيرية يفقد القدرة على الفهم، وبالتالي يورث ارتعاش اليد في إصابة الهدف.
على الرغم من أن السيد محمود عباس من الرجال الفلسطينيين الذين يعرفون التعامل السياسي، فإنه في القمة العربية الأخيرة قد فاتته تلك الحصافة واستهوته اللغة العربية الجزلة فقال: «يريدون أن يبدلوا (الأرض مقابل السلام) إلى (الازدهار مقابل السلام)». لتلك المقولة في الأذن نغمة مشبعة بالعواطف. ولكن على الأرض، فإن الازدهار يقرب التحرير ولا يبعده... ازدهار في التعليم الحديث، وازدهار في بناء المؤسسات الحديثة أيضاً، وفي تبادل سلمي للسلطة، وفي توحيد الرأي الوطني من خلال التخلي عن العصبيات التنظيمية، التي هي في بعضها قبلية، حتى التنظيم الحديث.
القرارات القطيعية التي تتوخى الشعبوية هي قرارات قاتلة في نهاية المطاف، «كل من يذهب إلى ورشة المنامة هو خائن». هذه العبارة الكبيرة! وقد رجعنا إلى التخوين والتكفير! وهي ملفات أصبحت متهالكة! ما هي الخطط البديلة الموضوعة الآن إذا قررنا أن نهجر ورشة المنامة، وبالتأكيد بعض الساسة الفلسطينيين يعرفون أول درس يتعلمه طلاب السياسة في أول يوم؛ «السياسة لا تحب الفراغ»، ومن لا يدخل الملعب لا يستطع أن يؤثر على نتيجة المباراة من صفوف المتفرجين، فهو مهما صرخ لن يؤثر في النتيجة!
العامل الحاسم في السياسة اليوم هو العلم بمعناه الشامل، وردود الفعل العاطفية ليست من العلم في شيء، قد تكون جسراً للحشد، ولكنها لا تكون سلاحاً للنصر. في غياب جزء كبير من التمويل لوكالة غوث اللاجئين، كيف يمكن أن يستمر تعليم الفلسطينيين في أجواء الانقسامات والصراعات المهلكة في الجسم الفلسطيني. هي فقط تفرض على متخذ القرار نوعاً من المزايدة التي يمكن أن تضيع الفرص، بدلاً من التحلي بالشجاعة للتعامل مع الملفات المستجدة بعقل حصيف ورؤية ثاقبة، فلا يخضع الجميع للشعبوية، ويحلّ التمني محل التعامل مع الواقع على الأرض.
بعد مرور نحو 3 أرباع القرن على قيام دولة إسرائيل على الأرض، ونصف القرن على توسعها منذ 1967، وتشريد ما يقرب اليوم من 8 ملايين فلسطيني، بعدما كانوا مليوناً عند النكبة، ما زال الجدل نفسه، والانشقاق نفسه، وتبادل اللوم واتهام الآخر نفسه!
وإنْ لم تصل رسالة أن الفلسطينيين هم أولى بقضيتهم، وأن فُرقتهم تساعد على ضياع تلك القضية، وأن استرجاع حقوقهم أو بعضها يكون باتخاذ العلم الحديث سبيلاً للفهم والتحليل، وأن طوقهم الأول وحدتهم، والثاني عروبتهم، فإن أمامهم مع الأسف سنوات كثيرة قد يبقون فيها في التيه الذي تفرضه ثقافة سياسية بائسة.

آخر الكلام:
يُذكرنا النقاش حول ورشة المنامة باللغط الذي دار بعد فوات فرصة لقاء مؤتمر مينا هاوس في مصر عام 1977، ولامت الأطراف الفلسطينية بعضها البعض، فيما تسبب بضياع الفرصة، بعد امتناعهم عن الحضور. ذلك المؤتمر أسّس لتحرير سيناء!