مذ قديم الأزمان، وسالف العصر والأوان، جرت على ألسن الناس، بين سوالف العامة، بمعنى حكاويهم ذات المغزى، سالفة، الأرجح أنها مرّت بآذان معظمكم، وأسماع أغلبكن، تقول إن «الضحك بلا سبب قِلة أدب»، تُرى أجائز القياس على القول ذاته للتوصل لاستنتاج مؤداه أن «ليس من غضبٍ بلا سبب»؟ منطق الأمور يرجّح الإجابة بنعم. أرجع لشيء من التفصيل بعد موجز كلام يشرح لِمَ اخترتُ الحديث في هذا الموضوع على وجه التحديد. لفتني ختام الأسبوع الماضي نقاش مسموع عبر إذاعة «إل بي سي» البريطانية، التي ذاعت شهرتها من منطلق تخصصها في فتح أبواب الجدل بشأن أهمّ الأحداث وأكثرها سخونة، وكذلك آخر الأنباء محلياً وعالمياً، وإذ يُبث نقاش الجمهور بلا حدود أو قيود، فإن الآراء قد تتفق، أو تختلف، بلا تدمير بناء أو سفك دماء بشر.
محور ذلك النقاش دار حول تطورين؛ أولهما تأسيس حزب بريطاني جديد يحمل اسم «بريكست»، بمبادرة من نايجل فاراج، المؤسس الأول للحزب البريطاني المستقل UKIP»»، والمعروف بتشدد مواقفه ضد عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. التطور الثاني هو اعتقال الأسترالي جوليان أسانج، مؤسس موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس»، فور رفع دولة الإكوادور الحصانة عنه، واستدعاء سفيرها لدى المملكة المتحدة شرطة لندن لاعتقاله. رافق الحديث عن كلا الحدثين شيء من الغضب. فيما يخص إطلاق حزب «بريكست»، نُسب للسيد فاراج القول ما مضمونه إن الغضب ليس بالأمر السيئ دائماً. فاراج يشير هنا إلى كمٍ معتبّرٍ من غضب يعتمل في صدور ما يتجاوز، عدداً، 17 مليون ناخب بريطاني صوتوا مع «بريكست» في استفتاء 2016، بسبب الفشل في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ذلك النفس الغاضب بدا واضحاً في مشاركات أغلب المستمعين، رغم الانتماء للضفتين، أي أنصار الانفصال عن بروكسل، ومعاضدي البقاء داخل الاتحاد. أما بخصوص أسانج، فقد راوح الغضب بين آراء معترضين أصلاً على استضافة سفارة الإكوادور لشخص يرون فيه نوعاً من التهوّر المؤذي لأمن دول حلف «الناتو»، والغرب عموماً، ومن ثمّ السماح له بالبقاء داخل مبنى السفارة منذ 2012، وبين وجهات نظر رأت أن أسانج يستحق التعاطف معه لمجرد أنه كشف بمساندة تشيلسي إليزابيث ماننغ، وثائق لم تتمكن كبريات الصحف العالمية من الوصول إليها.
بقليل من التأمل، يمكن ملاحظة عوامل غضب تجمع عناصر تبدو متنافرة. مثلاً، ليس ممكناً عدم الربط بين الغضب الناشئ عن فشل إنجاز مشروع فصل لندن عن تحكّم قيادة الاتحاد الأوروبي ببروكسل في قوانين بريطانيا، وسيادتها على حدودها عندما يتعلق الأمر بالهجرة، وبين تأسيس حزب «بريكست». وبالقياس ذاته، يمكن ربط غضب أنصار البقاء داخل التجمع الأوروبي بالغضب إزاء خلل يعتري أي نظام ديمقراطي، ألا وهو مبدأ الخضوع لانتصار أغلبية ضئيلة على جمع غير بسيط من أعداد الناخبين، بصرف النظر عما ستؤول إليه نتيجة الانتخابات. وبخصوص مؤسس موقع «ويكيليكس»، يمكن ملاحظة أن الغضب الساطع داخل جوليان أسانج، الشخص، ينعكس في أدائه كمتجسس (هاكر) على مواقع أسرار دول وأجهزة وحكومات، يعينه على ذلك غضب يعتمل داخل ضابط بحرية أميركي لمجرد أنه وُلِد ذكراً يدعى برادلي إدوارد ماننغ، بينما تعاني النفس منه اضطراباً يدفع به للتحول أنثى تحمل اسم تشيلسي إليزابيث ماننغ.
إنما، عودة إلى ما نُسِب إلى نايجل فاراج لجهة أن الغضب ليس سيئاً في الأحوال كافة، أستحضر هنا كتاباً نشره جون لايدون، المغني البريطاني المعروف، قبل خمس سنوات، واختار له العنوان البسيط، والكاشف في الآن نفسه، التالي: «الغضب طاقة». حقاً، يمكن للغضب، إذا أُدير على نحو صائب، أن يوّلد طاقة بناء تفيد المجتمع عموماً. ويمكن كذلك أن يلد من الهدم ما يضع الأوطان في مهب عواصف مدمّرة. لذا يوصي متخصصون في مجاهل علوم النفس البشرية، وأدغال غموضها المتعددة الأوجه، بتعلّم فن «إدارة الغضب»، بمعنى ضبط مساره، ومن ثمّ تدريب الأفراد على العمل به، إذ ربما ينفع ذلك في أن يقي المجتمعات شرور أي غضب أهوج يقتلع كل شيء يقف أمامه. وكما ينطبق ذلك النهج على الأفراد، يصح أيضاً على الشعوب، فالمنطق يرجّح، كما سبق القول، أن الغضب له دائماً أكثر من سبب، لكن المهم معرفة ما الهدف، وما المُراد الوصول إليه، وليس فقط الغضب لمجرد الغضب.
10:20 دقيقة
TT
غضبٌ بلا سبب؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة