سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

فتنة أفريقيا

لمرة جديدة، يبدو العرب وكأنهم خارج الخريطة، رغم الجهود الكبيرة التي تبذل، وتنامي عدد الفنانين التشكيليين المشاركين في المعارض الدولية والغاليريات، وازدياد عدد المتاحف. فالغرب مشغول بالفن الأفريقي هذه الأيام، وأسمائه اللامعة، كما مغموريه الذين يمكن أن يصبحوا نجوماً في السنوات المقبلة، وترتفع أثمان أعمالهم، بما لم يكن في الحسبان. منذ سنوات والاهتمام لافت، في المزادات، والمتاحف الكبرى، كما على الصفحات النقدية، والكتب تؤلّف حول أسرار الإبداع الآتي من القارة السمراء. معرض «سحرة الأرض» في العاصمة الفرنسية عام 1989 كان الفاتحة، ضم أعمالاً لأكثر من 100 فنان، توزعت نتاجاتهم بين «سنتر جورج بومبيدو» والصالة الكبرى لـ«لا فيلت» اختارهم جان أوبير مارتن، من كل أنحاء المعمورة باستثناء الدول الغربية، في محاولة لفهم ما تنتجه أخيلة الشعوب الأخرى. فكرة فضولية ذكية، أدرك على أثرها الغربيون أن ثمة كنوزاً لدى شعوب خرجت من أغلالها، وتحررت بفعل الإبداع المتفجر. معارض كثيرة نظمت بعد ذلك، من أبرزها «ريمكس لأفريقيا» الذي سيصبح العارضون فيه نجوم الغاليريات ليس في فرنسا وحدها بل في بريطانيا أيضاً واليابان. منذ عشر سنوات، تسارعت الخطى وجذب معرض «جماليات الكونغو» الذي نظمته «مؤسسة كارتيه» 150 ألف زائر. وكرت السبحة في «القصر الكبير» ثم تبنت ماركة «لويس فوتون» الفكرة ونظمت معرضاً مزدوجاً، لتستتبعهما بمجموعة ملابس مستوحاة من رحلات السفاري الأفريقية، كما استضيفت القارة المكتشفة من جديد، كضيف شرف في معرض باريس للفن عام 2017.
يخطر على البال، أن الغرب مزاجي الهوى، يمضي في تقليعاته فيعلي من شأن من يريد، ويحط مكانة من يشاء، لكن في الفنون لا بد أن نذهب أبعد قليلاً من المؤامرة. ثمة ملايين تصرف، وميزانيات تدفع، ولا يمكن لأحد أن يستخف بها ما لم تكن العوائد جمّة. من حسن الحظ أن ثمة فنانين من المغرب العربي ومصر يستفيدون من صيحة أفريقيا والحماسة لابتكارات أبنائها، وهم مستحقون بتميزهم. فالغرب لا يستطيع تسويق ما لا يسوق، ودور المزادات العالمية بمقدورها أن تلمّع منطقة جغرافية، شرط أن تكون قابلة للتسويق.
لغاية اللحظة لا تلفت المنطقة العربية بفنها، ولا روحها الخلّاقة لأسباب قد يكون أوضحها، افتقار غالبية الأعمال لأصالتها وعلاقتها بالجذور. ثمة تباه بـ«التأورب»، وتسرّع في اقتباس أعمال غربية، وسرعة في السير على خطى مدارس لا تشبهنا، وتشاوف بالتتلمذ على مدرسة هذا الفرنسي أو ذاك الإيطالي. وما ينطبق على التشكيل بالإمكان أن يقاس على ما نقرأه في الأدب وما نسمعه من موسيقى أو نشاهده من مسلسلات. الاستلاب يطغى ويعيث خراباً. والتأورب ينجب فناً هجين الملامح، ومسحوب الروح. حين تشاهد منحوتات السنغالي عصمان صاو بسطوتها وقوة تأثيرها في النفس، مع أنه لم يتمكن من دخول مدرسة للفن، وقضى حياته كادحاً، تعرف لماذا اعترفت به كبريات عواصم الفن نابغة في مجاله، واجتذب أحد معارضه في باريس 3 ملايين زائر، وتدرك حتماً كم أن ما ينجز في بلادنا هش وضعيف في تعبيره عن انتمائه لمكان واضح الملامح. ليس مما يبشر بخير أن الوسط الفني الشاب في لبنان يكاد لا يتكلم العربية ترفعاً و«تبرجزاً»، ويرسم كأنه مرتبك، لا يستطيع أن يقول شيئاً، فأي أعمال ينتج هؤلاء! الاعتراف الغربي ليس هدفاً، الأصل مصالحة الذات، بدل التنكّر لها. كان يظن أن الفنون الأفريقية هي أقنعة وتماثيل بدائية، وبعض الوشوم والحرف الصغيرة، واكتشف العالم أن للأفارقة مخيلة تذهل سكان المعمورة، وارتباطاً بالأرض والقضايا التي دافعوا عنها، تستحق الوقوف والتأمل. حتى الفنانون المهاجرون في بريطانيا وأميركا استعادوا ألقهم، وازداد الطلب على نتاجاتهم. ليست صدفة أن يتسابق «تيت موديرن» في لندن و«متحف الفن الحديث» في نيويورك على ضم أعمال قادمة من دول أفريقية، وأن تنظم «دار سوذبي» مزاداً على مائة عمل بيعت غالبيتها، ووصل سعرها إلى 4 ملايين دولار. مع الأخذ في الاعتبار أننا نتحدث عن سوق جديدة تحتاج قوة قلب من الشراة، وحماسة مغامرة من طرفهم.
كثر هم الخبراء الذين ينصحونك باقتناء أعمال هذا الكيني الناشئ أو ذاك الجنوب أفريقي المبتدئ، من الذين لا تزال لوحاتهم في متناول متوسطي الحال. فالجميع ينتظر أن ترتفع الأسعار بسرعة، مع الحمّى المتصاعدة.
وإذا كانت سوق الفن قد خسرت وتراجعت طوال سنوات سبقت، فقد سجلت العام الماضي أرباحاً هي الأعلى منذ عام 1945 دون احتساب ما جنته عصابات التهريب من الآثار المسروقة أو الأعمال المشبوهة. لقد بيعت في المزادات فقط 935 ألف قطعة فنية، غالبيتها من العيار الرفيع، فعشاق هذا النوع من الأعمال والمجمعين أيضاً، باتوا أكثر تطلباً، وأرفع ذائقة من ذي قبل. وفي كل الأحوال السوق وجدت للربح، والشاري يريد الأفضل، وعلى من يبغي تسويق بضاعته ممارسة الغواية. ولا إغراء من دون تفرّد، كما أنه لا خصوصية من دون هوية. وما يحدث حالياً، أن الدائرة لا تزال مقفلة تحتاج من يكسرها. فلا الفنان العربي من الصدق بحيث يستطيع أن يكون ضمير شعبه ونبضه، ولا الجمهور العريض يرى الأعمال التشكيلية كحاجة حياتية جمالية تستبطن المشاعر وتنحت في الذوق العام. وحين تنحدر الصلة بين مجتمع ومبدعيه إلى هذه الهاوية، لا ينتظر من المتفرجين أن يصفقوا للخسارات الجماعية.