خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هل من أمل في قطر؟

عبارة «لا يملك قراره» مستخدَمة كثيراً في السياسة، وغالباً بشكل إنشائي غرضها الإشارة إلى تأثير دولة كبرى على دولة أصغر. لكنني لا أسعى خلف هذا الغرض الإنشائي حين أقول إن «قطر لا تملك قرارها». أقصد أنها فعلاً لا تملك قرارها. لا تملك حتى قرار الانصياع ولو ضغطت عليها أكبر قوة في العالم. قرار قطر تسرب خطوة خطوة، حتى وصل إلى الباب العالي.
كانت البداية قبل عقود. في الوقت الذي كان طُرَدَاء الإخوان المسلمين يساومون على موطئ قدم في مجتمعات الخليج الأخرى، كانت قطر بالنسبة إليهم ملعباً مفتوحاً. شكَّلوا عقل المجتمع، ورسموا له تفكيره الديني.
الكاتب القطري عبد العزيز آل محمود فصّل هذا في مقال في جريدة «العرب» القطرية تحت رئاسة تحرير عبد الله العذبة. فلا مجال لأن يكون فيه تقوُّل بما لم يحدث. ثم خلص بعد التفصيل إلى: «وكانت بداية انتشار ذلك التيار في المعهد الديني الثانوي الذي خرّج خيرة شباب قطر في تلك المرحلة… ويعود الفضل إلى دور النخبة الإخوانية…».
يوسف القرضاوي، الذي أفردت له «الجزيرة» برنامجاً على مدار سنوات، ونقلت خطب الجمعة له على الهواء كل أسبوع، ثم أنشأت له هيئة دينية عالمية موازية لكي يرأسها، يشرح بنفسه في مذكراته كيف صيغت المناهج التعليمية في المعاهد الدينية على يده لكي تخرّج نشئاً قطرياً على الصورة التي يرضاها.
نشكو في مصر من الأثر السيئ الذي خلّفته خمسة عقود من الدعاية الإخوانية في المجال العام، وفي المدارس والجامعات، فما بالك بستة عقود من تخطيط المناهج، وتربية النشء، في إمارة ثم دولة قطر المحافِظة بطبيعتها، التي عدد سكانها 10% من عدد سكان حي بولاق الدكرور على أطراف العاصمة المصرية.
لكن على الرغم من ذلك، وحتى مع بوادر تحقق حلمهم العثماني بحكم منطقتنا من الباب العالي، ظل أمير قطر آمناً على كرسيه داخل الولاية التي يحكمها. الإخوان لا يملكون القدرة على الاستغناء عن الأسرة الحاكمة. لأنها عنوان الشرعية. تماماً كما كان وضع المماليك مع الوالي العثماني في مصر. هم أصحاب السلطة الكبرى في مفاصل الدولة، لكن لا بد من وجوده. وهذا يعني أنه في ظل ذلك الوضع كانت قطر، رغم كل شيء، قادرة على المناورة لو أرادت، قادرة على مساومة الإخوان العثمانيين في الداخل على الأمان مقابل المصلحة السياسية القطرية.
لكن كل هذا تغير منذ أرسل الباب العالي جنوده مباشرةً لـ«حماية» القصر الأميري. لم يعد هنا القول بأن قطر لا تملك قرارها، في أي اتجاه، تحليلاً. لقد صار أمراً واقعاً، مرئياً، ملموساً. قطر لم تعد أكثر من «أمين خزنة»، وميكروفون بترجمة عربية.
السقوط في هكذا مستنقع لا يجرّ إلا مزيداً من الغرق. ولحظة انسداد الأنف بالطين هي لحظة السقوط. بالتفكير السياسي المنطقي، كان يمكن لقطر أن تحسب حساب تلك اللحظة، وأن تتعلم من تجربة سوريا، بالحفاظ على خط رجعة مع جاراتها في الخليج. لكنها لم تفعل. بل اختارت أن تعمل على تأجيل لحظة سقوط الخليفة بتكريس مزيد من الجهد في التأليب على جاراتها في الخليج. عسى أن تمنحه زعزعة الاستقرار في المنطقة أملاً إضافياً.
وهكذا زادت في الغرق. تعدت الخطوط الحمراء السياسية في الأعراف الخليجية. صارت تتصرف بمنطق ومظهر ومخبر مَن لا يملك غداً، مَن كل أمله أن ينفجر كل مَن حوله اليوم. في أقرب فرصة، إذ أيقن أنه هالك لا محالة. بعد أن أوثق نفسه بثقل آخر.
هل يعني هذا أنْ لا أمل من حل المشكلة القطرية؟!
نعم. لا أمل إلا بفقدان الحزب التركي الحاكم السلطة. تعلم قطر أن المشاريع التوسعية مرتبطة بزعيم أو قيادة. وأن مَن يأتي بعده ينأى بنفسه عنه. يصح هذا حتى على ستالين، بطل الحرب العالمية، وراسم حدود الإمبراطورية. اكتمال المشروع في حياته لم يمنع خلفاءه من الانقلاب عليه. فما بالك بالمشروع الإردوغاني الذي لم يتحقق منه شيء، لا اتحاد أوروبي، ولا علاقات أفضل مع الأكراد، ولا أمجاد عثمانيين... لا شيء.
ولاية قطر، إنْ نظرنا إليها من زاوية إردوغان، هي «مكسبه» الوحيد بعد 17 عاماً. أثبتت له تونس أنها رقم صعب. ورأى في ليبيا أن البعيد عن العين بعيد عن القلب. وعلم في سوريا أن عام 1516 مختلف عن 2016. الرجل الذي ظن نفسه سليم الأول يصارع الآن لكي يحافظ على الليرة وعلى نفسه. وفي هذه الظروف، لا يمكن له بأي حال أن يستغني عن أمين الخزنة.
الميكروفون العربي لم يعد موجهاً بصفة أساسية إلى أهل اللغة العربية. أعداد متزايدة من متحدثيها تعلم زيف ما يصدر عنه، لأنها تستمع إلى أصوات أخرى باللغة نفسها. الميكروفون العربي صار موجهاً إلى الأتراك. لكي يظنوا - بعد الترجمة إلى التركية والإنجليزية - أن شعوب المنطقة لا تزال تنادي إردوغان بلسان عربي مبين.
المتابع لتصريحات إردوغان الداخلية يلاحظ أن إردوغان القديم، المخطط الاقتصادي، الساعي إلى أوروبا، المنفتح على الأكراد، اختفى. ولم يبق إلا إردوغان الذي يروج لجمهوره حكايات عن الملائكة التي تحميه، وعن الأمانة التي يجب على الناخب «المؤمن» أن يردها.
هذه علامة يأس وتخبط. اليأس والتخبط في عرف الجماعات الآيديولوجية يعبّر عن نفسه بمزيد من الصياح. وهذا يفسر لماذا تخلى بعض وسائل الإعلام العالمية المخترَقة من قبل هذا التحالف عن تنكرها مؤخراً. هذا الصياح سيعلو أكثر وأكثر كلما ضاق الوقت. ولن يستكين إلا بالسقوط الحاسم. والاستقرار والهدوء والثقة على الجانب الآخر. مع مزيد من الإعلام الناطق بالتركية الموجه ضد إردوغان. لأن هذه قواعد العالم الذي نعيش فيه.