عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

محنة «الدواعش»

«عروس (داعش)»، شميمة خان (19 عاماً)، ما تزال تشغل بريطانيا مثيرة جدلاً واسعاً حول كيفية التعامل مع مراهقة «هربت» قبل أربعة أعوام من أهلها ومدرستها للالتحاق بدولة تنظيم داعش المزعومة في سوريا. حتى خطوة تجريدها من الجنسية البريطانية التي اتخذها وزير الداخلية ساجد جاويد، لم تنه الجدل بين مؤيد، ومعارض، وفريق ثالث يطالب بمزيد من الإجراءات بما فيها تحديث وتعديل قانون الخيانة الذي يعود إلى القرن الرابع عشر لكي يطبق على «الدواعش» البريطانيين.
بريطانيا بالتأكيد حائرة حول كيفية التعامل مع أكثر من 900 شخص سافروا خلال السنوات الماضية للالتحاق بـ«داعش» في سوريا والعراق، وهي في ذلك ليست وحدها، إذ إن الأمر يثير نقاشاً واسعاً في عدد من الدول الغربية الأخرى، لا سيما الدول الأوروبية التي توجه منها أكثر من خمسة آلاف شخص إلى سوريا والعراق للالتحاق بـ«داعش»، وفقاً لتقرير منسق مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي. من بين هؤلاء عاد نحو 1750 «داعشياً» إلى بلدانهم الأوروبية، بينما قتل الباقون أو وقعوا في الأسر، وبقي عدد منهم يقاتل مع «داعش» في آخر الجيوب من بقايا «الدولة الإسلامية» المزعومة أو توجهوا إلى دول أخرى مثل ليبيا وأفغانستان. قلة من العائدين أخضعوا للمحاكمة بينما الغالبية يعيشون تحت ظل المراقبة الأمنية باعتبارهم قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة مثلما اتضح في عدد من العمليات الإرهابية المتفرقة في أوروبا.
فعلى الرغم من تشديد قوانين مكافحة الإرهاب، فإن «الدواعش» العائدين يبقون مشكلة أمنية وقانونية وسياسية للدول الأوروبية لا يوجد اتفاق حول كيفية حلها. فمحاكمتهم تتطلب الحصول على أدلة دامغة بشأن مشاركتهم في القتال وارتكابهم جرائم، وفي معظم الحالات يكون الحصول على الأدلة الكافية مشكلة؛ لأن العائدين ينكرون مشاركتهم في القتال ويخترعون قصصاً عن أنهم ذهبوا لتقديم عون طبي أو إنساني. كما أن تنقلهم المستمر بين مناطق القتال يصعب مهمة متابعتهم، مثلما يعقد الحصول على شهود ضدهم بين ملايين الناس الذين شردوا من هذه المناطق. الأهم من ذلك أن السلطات تحتاج إلى إقناع القضاء بأن «الداعشي» الماثل أمام المحكمة يشكل تهديداً إرهابياً جدياً وليس فقط افتراضياً، وإلا فإن الشخص قد يخرج بحكم البراءة أو بالسجن فترة بسيطة.
عدد «الدواعش» الذين عادوا إلى بريطانيا يقدر بنحو 425 شخصاً لا يعرف على وجه التحديد كم منهم قدموا لمحاكمات وكم منهم أخضعوا للمراقبة المستمرة، علماً بأن عدداً منهم ربما لم يصنفوا أنهم يمثلون تهديداً أمنياً على أساس أنهم إما عدلوا عن الأفكار التي جعلتهم يلتحقون بـ«داعش»، أو أنهم أصلاً ليسوا من غلاة المتطرفين الذين يمكن أن يوجهوا مشاعر العداء نحو بلدانهم التي يعيشون فيها، وأن قتالهم إلى جانب «الدولة الإسلامية» المزعومة كان بسبب أفكار حالمة أو ساذجة. هناك أيضاً من يرى أن بعض هؤلاء العائدين يمثلون «كنزاً معلوماتياً» لأجهزة الاستخبارات التي تستجوبهم لمعرفة أسرار تساعد في منع أي عمليات إرهابية، وفي التعرف على العناصر الأشد تطرفاً التي تمثل خطراً أمنياً سواء بالتنفيذ أو التخطيط أو التجنيد.
في الجانب المقابل، توجد أصوات تعتبر أن قتل «الدواعش» في ميادين القتال حيث يوجدون هو الحل الأفضل. وفي هذا الصدد كانت هناك تصريحات لافتة أدلى بها بريت ماكغورك المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي الذي كان مكلفاً التنسيق في التحالف الدولي لمحاربة «داعش» قبل استقالته احتجاجاً على قرار الرئيس دونالد ترمب بالانسحاب من سوريا، التي قال فيها «إن مهمتنا هي أن نضمن أن أي مقاتل أجنبي التحق بـ(داعش) في سوريا، فسيموت هناك». هذا الرأي قد يكون له أنصاره الذين لا يجاهرون به، لكن المشكلة تبقى أنه على الرغم من القصف المكثف لأكثر من أربع سنوات، والحرب على الأرض، فإن عدداً لا يستهان به من مقاتلي «داعش» الأجانب ما زالوا على قيد الحياة يقاتلون في صفوف التنظيم، أو عاد بعضهم إلى بلدانهم في الغرب، لتتواصل محنة السلطات إزاء كيفية التعامل معهم، وتحمل التكلفة العالية لعمليات المراقبة على مدار الساعة لتحركات ونشاطات من يعتبرون خطراً محتملاً على الأمن القومي.
الواضح أن الرأي الشعبي العام في غالبيته يؤيد منع عودة «الدواعش». ففي حالة شميمة خان مثلاً أشارت استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من 70 في المائة من البريطانيين يرون أنه لا ينبغي السماح لها بالعودة، وهو ما حدث عندما قرر وزير الداخلية تجريدها من الجنسية. لكن القرار قد لا يكون حلاً في دول تخضع لحكم القانون، وبالتالي تضمن للشخص حق الاستئناف أمام المحكمة التي قد تلغي سحب الجنسية إذا لم تقتنع بأن المتضرر يشكل تهديداً أمنياً جدياً للأمن القومي، وهو ما حدث في حالتين نظرتهما المحكمة العام الماضي. وفي حالة شميمة خان التي أعلنت أسرتها أنها ستستأنف القرار، قد تكون هناك أسباب قوية ترجح إلغاء القرار أمام المحكمة. عامل السن قد يكون من الاعتبارات التي ستنظر فيها المحكمة، لأن الفتاة كان عمرها 15 سنة عندما هربت إلى سوريا وتزوجت بعد أشهر قليلة من أحد مقاتلي التنظيم، مما يدعم حجة التغرير بها. صحيح أنها آذت نفسها بتصريحاتها المثيرة للجدل وعدم إظهارها للندم أو الإدانة لممارسات وجرائم التنظيم الإرهابي، لكنها في الوقت ذاته أوضحت سذاجتها التي ستكون ضمن المعايير التي ستوضع أمام المحكمة.
الأمر الآخر أن القانون يمنع سحب الجنسية من الشخص إذا كان ذلك سيجعله مشرداً بلا بلد. ومن هذا المنطلق أعلن محامي أسرة شميمة خان أن المراهقة ليس لديها جنسية أخرى غير البريطانية على الرغم من أن أسرتها مهاجرة من بنغلاديش، مما يعني أن قرار وزير الداخلية سيجعلها مشردة. أضف إلى ذلك أنها وضعت مولوداً في مخيم اللاجئين حيث تحتجز، وحدثت الولادة قبل قرار تجريدها من الجنسية مما يثير مشكلة أخرى لكون الطفل بريطانياً، وفقاً للقانون.
كل هذه التعقيدات توضح حجم المشكلة التي تواجهها دولة مثل بريطانيا بشأن كيفية معالجة قضية «الدواعش». فمنعهم من العودة لا يعتبر حلاً للمشكلة بل رميها على دول أخرى سواء سوريا والعراق، أو دولهم التي هاجرت منها أسرهم. تعديل القوانين وتغليظ العقوبات هما السبيل لمعاقبة العائدين وردع من يفكرون في الالتحاق بـ«داعش» أو غيرها، لكن يبقى الأهم من ذلك هو تفكيك هذه التنظيمات وتكثيف الجهود الدولية لخنقها عسكرياً ومالياً وأمنياً وفكرياً.