سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

شواهد التعمير والبناء

ألف الناس، عند حلول الذكرى السنوية لجلوس الملك المغربي على العرش، الاستماع لخطاب العرش. وخطاب العرش هو الصفة التي تطلق على خطاب ملك المغرب يوم حلول ذكرى المناسبة، وهو من علامات الاحتفال، بل إنه الحدث السنوي الذي يتطلع إليه المغاربة وتتجه إليه أنظار المراقبين والمهتمين بأحوال المغرب ومحيطه؛ ذلك أن خطاب العرش يبين، كما ألف الكل ذلك عقودا متصلة (في عهد الملك الحسن الثاني وفي عهد والده من قبله محمد الخامس، رحمهما الله)، أمورا جوهرية ثلاثة؛ أولها القيام بتقديم وتقويم حصيلة سنة كاملة من أداء الدولة في مختلف القطاعات الحكومية (المنجزات)، وثانيها الإعلان عن المشاريع الكبرى التي يتوق الناس لمعرفتها، ومن ثم الحسم في قضايا الأوليات وترتيبها، وكذا الإعلان عن القرارات والاختيارات الكبرى التي تقرر اتخاذها أو عرضها على أنظار الشعب في استشارة مباشرة بواسطة استفتاء شعبي (وهذا ما يحدث في أحوال قليلة في الواقع) أو عرضها على نظر الشعب بواسطة البرلمان، حيث تصنع القوانين وتصاغ التشريعات. وثالث الأمور التي ألف الناس سماعها في خطاب العرش هي التذكير بالمواقف السياسية الكبرى التي تختار المملكة الالتزام بها في مجالات السياسة الخارجية والداخلية وما في هذا المعنى، مما يستوجب التذكير به متى تعلق الأمر بعسر فهم أو انتظار التصريح برأي دقيق واضح.
ومن نافلة القول، إن رجال السياسة والصحافة، وكثيرا من الناس في المجالس السياسية والمنتديات العمومية، ينتظرون من خطاب العرش البت في قرار كثر التنبؤ باتخاذه أو الإعلان عن قرار قد يكون من شأنه إحداث حركية شاملة أو وضع حد لتوقع أو انتظار. وبالجملة، فخطاب الملك في عيد العرش، ليس في التقليد المغربي خطابا من جملة خطابات يتوجه بها الملك إلى الشعب، بل إنه الخطاب الذي يعلم عن نهاية سنة وبداية أخرى.
خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الخامسة عشرة لاعتلائه العرش أتى مخالفا من وجوه عديدة، ليس بالنسبة لما تقدم من الخطب الأخرى، وإنما بالنظر إلى ما يعهده المغاربة من خطاب العرش. بعض سمات المغايرة والجدة تستوقفنا ونود أن نجعل منها مدار حديثنا اليوم.
السمة الأولى القوية هي إرادة مجاوزة الخطاب التمجيدي؛ فخطاب الملك اتسم في هذا الصدد بخصلتين اثنتين لا تكونان إلا لذي رؤية بعيدة وصاحب مشروع يؤمن صاحبه بما يقول، ويقدم للناس كل مبررات التصديق بعيدا عن المحاباة، واستنادا إلى منطق الرشاد. فأما الخصلة الأولى فهي امتلاك شجاعة التصريح بأن الأمور ليست في كل الأحوال على ما يرام، ولا على أفضل الوجوه الممكنة. وأما الخصلة الثانية فهي امتلاك الجرأة على القول. نعم، إن على من جعله الله في موقع المسؤولية العظمى واختاره شعبه لقيادته أن يتوقف بين الحين والآخر من أجل التقاط الأنفاس قبل متابعة السير، وذلك بالنظر فيما تم، استمدادا للقوة على المضي قدما وتحفيزا للأمة على المثابرة. غير أن الوقفة ينبغي لها أن تكون وقفة قصيرة لا تحمل على دغدغة الذات، بل تحمل على المثابرة ومضاعفة الجهد. وقد يلزم أن تكون لنا شجاعة الاعتراف بأن المجاملة (وربما ما هو أشد منها أثرا سلبيا على النفس) تجعل من المواطن العربي إنسانا يجعل الجهد كله موقوفا على خطاب المجاملة، في حين أن الزمان والشدة يستدعيان غير ذلك. لا يتعلق الأمر بكسب معركة انتخابية ولا بتبرير لموقف في حاجة إلى تبرير، وبالتالي لا يتعلق الأمر بدفاع عن شرعية تفتقد أسس الشرعية ومقوماتها، فليس هناك ما يحمل على هذه الأمور كلها. إذا كان صحيحا أن كل حديث يحمل رسالة أو خطابا (في المعنى اللساني - نسبة إلى علوم اللسانيات)، فإن الرسالة التي يتجلى بوضوح أن خطاب الملك محمد السادس يريد تبليغها، هي أن ساعة تثبيت الأسس الفعلية للمجتمع الحداثي الديمقراطي الذي كانت خطب محمد السادس تشير إليها في كل السنوات الخمس عشرة السابقة.. إن هذه الساعة قد أزفت وها هو ذا خطاب الملك يقرع الجرس بالتنبيه إليها؛ إذ يسن القاعدة الجديدة في حديث الملك إلى شعبه: ليس الأصل في الحكم على الأشياء في مجال الفعل السياسي هو ما تم إنجازه (فذاك يجعلنا في موقف القصور والقناعة من القافلة الإنسانية بمكان المؤخرة)، بل العبرة بما لم يتم بعد، فالسؤال ينبغي أن يكون بالأحرى: لماذا لم يتم إنجاز ما كان ينبغي أن ينجز وما الموانع التي تحول دون ذلك؟
السمة الثانية التي تسترعي الانتباه إليها في خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الخامسة عشرة للجلوس على العرش هي سمة القوة (والجرأة أيضا) على طرح السؤال الذي يطرحه البعض بصوت منخفض، بل وقد يتجاهل البعض الآخر طرحه، بل ربما صاغه البعض الثالث في صيغة تستهدف التعجيز والفت في العزائم إن لم نقل إنها تخفي نية هي أسوأ من ذلك وأشد مراوغة. والسؤال الذي طرحه الملك هو ما تقوله لغة الأرقام والإحصاء وتدل عليه شواهد التعمير والبناء في المغرب من ملامح تنمية وتطور قد يصعب إنكارهما، غير أن واقع الحال يبين مخالفة لذلك متى نظرنا إلى توزيع الثروات من جهة العدالة، فلماذا كانت الأمور على هذا النحو، ومن ثم ما الذي يتعين فعله من أجل مجاوزة هذا الواقع؟
وأما السمة الثالثة القوية التي تسترعي الانتباه فهي التنبيه في خطاب الملك على مكون أساس من مكونات الثروة في الوجود الإنساني، توليه معايير التنمية الصحيحة أهمية فائقة في حين أن النظر القاصر يخطئه وغياب المشروع الكبير يفتقده، وذلك هو الرأسمال غير المادي للأمة. وغني عن البيان، أن الثروات الحقيقية للأمم العظيمة لا تقاس بما تتوافر عليه من رأسمال مادي ومن ثروات تستخرج من باطن الأرض أو تجتبى من الضرائب والخدمات، بل إن الرأسمال غير المادي قد يفوق، من جهتي المردودية والقدرة على المنافسة، ما ليس يكون للرأسمال المادي أحيانا كثيرة، والأمثلة على ذلك من أحوال الأمم عديدة ومتنوعة.