«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (2): أفلام زانغ ييمو... من الفن الجميل إلى الجميل وحده

المرأة قوية في «الجدار العظيم»
المرأة قوية في «الجدار العظيم»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (2): أفلام زانغ ييمو... من الفن الجميل إلى الجميل وحده

المرأة قوية في «الجدار العظيم»
المرأة قوية في «الجدار العظيم»

إذ يعود المخرج الصيني زانغ ييمو إلى مهرجان برلين مزوّدا بفيلم جديد بعنوان «ثانية واحدة»، ينتشر ما مفاده أن المخرج اكتفى من أفلامه المتوسطة والفانتازيا التاريخية ليعود إلى قديمه اللاجتماعي الجاد.
هذا القرار اتخذ، سواء عن قصد أو من دونه، بعد الفشل الذريع الذي حصده فيلمه السابق «الجدار العظيم» قبل عامين ونصف العام. لإتمام العودة لجأ المخرج ييمو إلى الكاتب زو جينكزي الذي وضع له سابقاً فيلمين جديرين هما «راكب وحيد لألوف الأميال» (2005) و«العودة للوطن» (2014).
تصوير الفيلم بوشر به في منتصف العام الماضي في مقاطعة دونهوانغ شمال غربي العاصمة وعلى بعد ألوف الكيلومترات منها. في تلك المنطقة صوّر زانغ ييمو فيلمه السابق «الجدار العظيم» ومن قبله صوّر هناك فيلمه «بطل». الموضوع هذه المرّة بسيط في تركيبته: في سبعينات القرن الماضي يعيش شاب يهوى السينما في مزرعة نائية وذات يوم يلتقي بامرأة مشردة ويقع في حبها.
لكن من يعتقد أن ييمو قد استدار كلياً صوب ماضيه الفني بمعالجات جادة لمواضيع اجتماعية وعاطفية رصينة، عليه أن يفكر مرتين فالفيلم المقبل لزانغ لي المزمع تصويره في منتصف هذه السنة هو «ظلال» والصحف الصينية تخبرنا أن الفيلم سيكون من نوع الفانتازيا القتالية التاريخية إذ تقع أحداثه في زمن «الملوك الثلاثة».

- مهارة الصورة
لدي الفضول لمعرفة حقيقة الأسباب التي دفعت بالمخرج لتغيير خط سيره قبل نهاية التسعينات من تلك الأعمال الجادة إلى تلك الفانتازيا. لكن على القدر ذاته من الغموض، السبب في تحوّل مماثل أصاب زميله المخرج تشن كايغي في الفترة ذاتها. وما يبدو قريب الاحتمال أن الخطوة تمّـت انصياعاً لطلب المؤسسة التي تملك قرار الموافقة على السيناريوهات وتفرض مرور الأفلام أمام أعين الرقباء بعد ذلك. ولعل ما حدث لزميل ثالث من المجموعة التي عرفت بالجيل الخامس، وهو تيان زوانغزوانغ الذي قل نتاجه بعد قرار بمنع بعض أفلامه التي اعتبرت انتقادية ومن بينها «طائرة الورق الزرقاء»، كان ماثلاً أمام عدد كبير من المخرجين الذين انطلقوا في وجهة واستمروا في وجهة أخرى وبينهم ييمو.
ولد زانغ ييمو في العام 1951 وقد أشيع بأنه باع دمه لكي يشتري بالثمن الكاميرا الأولى. في مطلع شبابه تم إرساله إلى مزارع تدجين الأفكار فيما عرف بالثورة الثقافية. وبعد انقضاء تلك الفترة دخل أكاديمية الفيلم سنة 1978 عند تخرجه تم إرساله إلى استديو صغير ليعمل مدير تصوير، وهناك، سنة 1984، تعرف على تشن كايغي الذي كان يصوّر «أرض صفراء» وعمل معه على ذلك الفيلم. بعد ثلاث سنوات قام ييمو، وقد التحق باستديو أكبر، بتحقيق فيلمه الأول «الذرة الحمراء».
مهارة ييمو في استخدام الصورة لخلق حالة انجذاب كامل صوب الموضوع حتى من قبل أن ينجلي الموضوع عن عناصره الدرامية الأساسية تبدت في ذلك الفيلم. جاء «الذرة الحمراء» بمثابة لوحة متعددة الألوان تقع في وسط المسافة بين الحكاية الماثلة والمشاهد.
نجاح الفيلم ساعده على إنجاز «جودو» (1990) و«ارفع المصابيح الحمراء» (1991). الأول عرض في مسابقة مهرجان «كان» والثاني أمّ مهرجان فنيسيا.
«ارفع المصابيح الحمراء» كان خطوة مستترة إلى الوراء. فنياً لم يكن أكثر من توظيف للمكان والفترة التاريخية وولع المخرج بالألوان مع قليل من المواقف الصادمة. على ذلك اعترضت الرقابة سير الفيلم ومنعته مصرّة على أن ينجز ييمو فيلماً لحساب النظام قبل الإفراج عنه. هذا الفيلم كان «قصة يو جو» (1992).
لكن «قصة يو جو» لم يكن عملاً دعائياً إلا في هامش ضيق. حكاية تلك المرأة التي تسعى لكسب عدالة القضاء ضد مسؤول في قريتها رفس زوجها في موضع حساس تتهادى مثيرة الاهتمام الفعلي ومتماوجة بين الكوميديا والدراما. فقط نجاح المرأة في الوصول إلى المسؤولين الكبار والاقتصاص من مسؤول قريتها الحكومي هو الجانب الدعائي الذي يمكن تسجيله على الفيلم.
هناك جانب مماثل في فيلم هو في عمومه جيد بعنوان «لا واحد أقل» (Not One Less) أنجزه سنة 1999 وهو العام الذي أنجز فيه فيلمه المبسط «الطريق للوطن» The Road Home وكلاهما من تبعيات تلك الفترة التي تلت أعماله التي شهرته وسبقت تلك التجارية التي حققها فيما بعد.

- مقارنة
بالنسبة لزانغ ييمو فإن «قصة يو جو» لم يكن أكثر من تغيير نمط. قال حينها إنه لا يزيد أن يسقط في خانة من توقعات المشاهدين بل مفاجأتهم بجديد غير محسوب.
هذا ما قاله وهذا ما لم يفعله. فأفلامه بعد ذلك التاريخ استدارت بعيداً عن طرح المواضيع الانتقادية الشائكة وتلك التاريخية التي قد يرى منها البعض نافذة لنقد الأمس بصفاته الوطنية. من بعد هذا الفيلم أقدم على «بطل» (2002) الذي عاد فيه إلى التاريخ لكن ليقدم من خلاله حكاية تزينها مشاهد القتال والمعارك واستخدام السيوف والقبضات حسب تعاليم الكونغو.
على النسق نفسه قدّم سنة 2004 فيلمه «منزل الخناجر الطائرة»: ملهاة مثيرة للعين فارغة من الفن إلا ما له علاقة بالتصاميم العامّة وحسن معالجة الموضوع الذي ينتمي أيضاً إلى الأعمال التاريخية المعالجة بفانتازيا المعارك المتوالية.
المنهج نفسه ساد فيلميه اللاحقين «لعنة الزهرة الذهبية» (2006) و«امرأة، مسدس ودكان نودل» (2009) كما معظم أفلامه اللاحقة بعد ذلك وحتى «الجدار العظيم» الذي كان محاولته تسلق الجدار ما بين الصين وهوليوود بجلب مات ديمون للعب دور البطولة كاميركي فار في أحداث تقع في الصين القديمة يجد نفسه لاجئاً لدى محاربين يذودون عن قلعتهم الواقعة عند جدار الصين العظيم ضد غيلان ووحوش شبه بشرية.
أشار ييمو ذات مرّة إلى أنه لا يتبع خطاً جديداً بحد ذاته: «هناك عدد من المخرجين الذين انتقلوا من الدراما الاجتماعية إلى الأفلام التاريخية. المثال الأقرب هو أكيرا كوروساوا».
في ذلك كان ييمو يقصد - على الأرجح - فيلمي المخرج الياباني الفذ أكيرا كوروساوا وهما «كاغيموشا» و«ران». لكن الفارق شاسع جداً كون كوروساوا لم يضطر للتخلي عن ملكيته الفنية وهو يستخدم المادة التاريخية لسرد ملاحم القتال بين اللوردات.
ما يجعل ييمو ماثلاً، رغم سقطاته المذكورة، حقيقة أنه يعرف ما يقدمه ويقدمه في صياغة سردية سريعة ومثيرة ترضي المشاهدين الباحثين عن فيلم مغامرات مصنوع جيداً. إلى ذلك، هناك غالباً ذلك القالب الأنثوي المثير الذي يمنحه لبطلاته (من غونغ لي إلى زانيغ زيي). شخصياته النسائية قوية في «الذرة الصفراء» كما في «منزل الخناجر الطائرة». وحركة الكاميرا عنده دائمة ومطواعة للموضوع.
كل هذا لا ينفي أنه عندما يريد إنجاز فيلم جماهيري، فإن تلك الحسنات تحتل الصف الخلفي دافعة الجادين منا لمراجعة أفلامه الأولى التي تدخل - بعد عقود مرّت على إنتاجها - صرح الأفلام الكلاسيكية.


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.