خلال الأسابيع الستة الماضية، أشغل الرئيس الأميركي دونالد ترمب العالم بتصريحات مثيرة للجدل حول مستقبل وجود القوات الأميركية في أكبر ثلاث ساحات قتال لها – في سوريا وأفغانستان والعراق. ليس مستغرباً أن يكرر ترمب تصريحات حول نيته سحب القوات من تلك الدول، إذ عبر خلال حملته الانتخابية عن نيته القيام بذلك مراراً. ولكن اللافت أنه أعلن العمل وليس فقط النية على تحقيق هذه السياسة، على الرغم من انتقادات وتحذيرات من أوساط سياسية وعسكرية مختلفة. فهل سينجح ترمب في سحب القوات الأميركية؟ لا توجد إجابة مباشرة وواضحة لهذا السؤال، خاصة أن كل ساحة لديها تعقيدات مختلفة.
لقد صرح ترمب في مقابلة مع قناة «سي بي إس» الأميركية بأنه يريد إنهاء «حروب اللانهاية» في أفغانستان وسوريا – ولا يمكن لأحد أن يجادله في مبدأ إنهاء تلك الحروب الطاحنة التي استمرت سنوات طويلة من دون جدوى. حرب أفغانستان دخلت عامها الـ18 لتفوق مدتها أطول حرب أميركية في السابق وهي حرب فيتنام. وأما الحرب السورية فبعد 8 سنوات من القتال وشتات السوريين لا يوجد أفق للخروج من الأزمة. ولكن في الواقع، القتال في سوريا وأفغانستان لن يتوقف فقط بسحب القوات الأميركية. يا ليت كان الأمر بهذه السهولة لعمل الجميع على إخراج الأميركيين. وربما على الرئيس الأميركي التعلم من سلفه باراك أوباما الذي وعد خلال حملته الانتخابية عام 2008 بسحب القوات الأميركية من العراق، وفعلا قام بسحب غالبية القوات تحت شعار «إنهاء الحرب في العراق». إلا أن بعد أشهر قليلة بدأت عناصر «داعش» تتجمع واضطرت قوات أميركية للعودة إلى البلاد ضمن تحالف دولي لهزيمتها. كما أن الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران ملأت الفراغ الأمني وتعتبر اليوم من أشد خصوم واشنطن.
في الحالات الثلاث، لا يمكن إنهاء النزاعات المسلحة من دون حلول سياسية جذرية. كما أن دولاً إقليمية ومؤثرة مثل روسيا وإيران وتركيا تنظر بتمعن في الموقف الأميركي للتخطيط المستقبلي.
من اللافت أن تصريح ترمب حول الانسخاب من أفغانستان جاء مع انشغال مبعوثه الخاص للسلام في أفغانستان زلماي خليل زاد الذي بات يفاوض عناصر «طالبان» مباشرة. وإعلان ترمب عزمه الانسحاب من أفغانستان أعطى المقاتلين المتشددين نقطة قوة، إذ يعلمون أن الانسحاب هو العامل الأهم بالنسبة للمفاوض الأميركي.
وفي المقابل، تنظر روسيا إلى فرصة لملء جزء من الفراغ الأميركي. وعلى الرغم من أن الوجود الروسي في أفغانستان أقل تأثيراً بكثير من ذلك في سوريا، فإن موسكو جغرافياً أقرب إلى كابل ولديها مصالح متعددة فيها. لذا تستضيف موسكو اليوم نقاشات بين أطراف أفغانية عدة مع طالبان، سعياً للعب دور أكبر في هذا الملف.
وبالطبع، روسيا تنظر إلى سوريا اليوم كدولة ضمن نفوذها السياسي والعسكري، وتنتظر الانسحاب الأميركي. ولكن كلما تأزمت العلاقات الروسية – الأميركية، تزداد الضغوط السياسية على ترمب لئلا يتسرع في الانسحاب من مناطق تستفيد منها روسيا.
وفي خطوة مفاجئة، تحرك مجلس الشيوخ الأميركي الأسبوع الماضي لإصدار تشريع يمنع سحب القوات الأميركية بشكل مستعجل من أفغانستان وسوريا، وهذا تطور لافت بعد أن كان الكونغرس تقليدياً مصدر التشريعات التي تطالب بسحب القوات الأميركية. أما البنتاغون، فأصدر تقريراً هذا الأسبوع يفيد بأن «الأمن تحسن في المدن العراقية ولكن (داعش) ما زال نشطاً في المناطق الريفية في البلاد». وأضاف التقرير الصادر يوم الاثنين أن «قوات الأمن العراقية ما زالت تتكل على دعم كل من الولايات المتحدة والتحالف».
وفي ما يخص العراق، فإن تصريحات ترمب يوم الأحد الماضي بأنه يريد إبقاء قوات هناك لـ«مراقبة إيران.. لأن إيران تشكل مشكلة حقيقية» فيها قدر من الصراحة قلما تلمسه من ساسة واشنطن. فلا يمكن نكران المصلحة الأميركية في إبقاء قوات قريبة من خصمها الأشد في المنطقة. ولكن في الوقت نفسه، لم تكن القوات الأميركية قادرة على صد النفوذ الإيراني في البلاد خلال السنوات العشر الماضية.
اجتماع واشنطن للدول الأعضاء في التحالف لدحر «داعش» يوم الأربعاء سيسلط الضوء على أهمية التحالف والإبقاء على الاستراتيجية الدولية لدحر الجماعة الإرهابية. سيكون من الصعب على الإدارة الأميركية مواجهة الدول الـ78 الأخرى الأعضاء في الحلف والقول بأن خطر «داعش» قد تراجع – خاصة مع تقرير وزارة الدفاع الأميركية.
لا يمكن نكران تأثير الضغوط الداخلية على السياسة الأميركية تجاه تلك الحروب. آخر استطلاع للرأي لشركة «يوغف» أفاد بأن 61 في المائة من الأميركيين يؤيدون الانسحاب من أفغانستان. ولكن الوضع مختلف في ما يخص سوريا، إذ وجد استطلاع رأي «راسموسن» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن 47 في المائة من الأميركيين ضد الانسحاب المبكر من سوريا، بينما 37 في المائة يؤيدونه. ومن اللافت أن 16 في المائة من الذين شاركوا في استطلاع الرأي لم يحسموا موقفهم من ذلك.
ويبدو أن هذه الآراء تصل إلى البيت الأبيض، اذ بعد أسابيع من تصريح ترمب بأنه ينوي الانسحاب من سوريا، لم يتم ذلك فعلياً بعد. وقد عدل الجدول الزمني من أيام إلى أسابيع إلى أشهر لتنفيذ الانسحاب، بينما الموقف من أفغانستان يشير إلى أن واشنطن على عجلة لإنهاء الحرب، وبحسب جدول زمني واضح: انتخابات الرئاسة المقبلة لعام 2020 التي بدأت فعلاً الحملة الانتخابية لها من الآن. وإذا استطاع ترمب أن يعلن أنه أنهى حرب أميركا الأطول، سيكون ذلك شعاراً مهماً أمام الشعب الأميركي. أما الوضع في العراق وسوريا، فبات مرتبطاً مباشرة بإيران، التي تعتبرها إدارة ترمب الخصم الأول في منطقة الشرق الأوسط، وذلك يجعل من عملية الانسحاب أكثر تعقيداً.
TT
هل سينجح ترمب في سحب قواته من ساحات القتال؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة