د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

كيف استفاد «الإسلاميون» من اليسار؟!

يقتضي الذكاء أن يتعلم الإنسان من خصمه أكثر مما يتعلم من صديقه. وكما نلاحظ أن في هذه الفكرة إقرار خفي بأن لكل طرف - مهما كان - إيجابية أو إيجابيات جديرة بالالتقاط، ذلك أن صورة الخصم ذاتها، تشترط التمكن من عناصر أو خصائص معينة تُؤهل صاحبها ليقف في وجه «الطرف» الخصم أو الآيديولوجيا المتخاصم معها.
في هذا السياق العام نود أن نطرح بعض الأسئلة حول التبادلية النفعية في الخصومة الآيديولوجية التاريخية بين التقدميين الحداثيين والحركات الإسلامية. بمعنى آخر إلى أي مدى استطاع الإسلاميون الاستفادة من خصومهم وسحب البساط منهم في المواعيد الانتخابية وفي حجم استقطاب القواعد الشعبية؟
كما تلاحظون خيّرنا طرح سؤال الاستفادة بالنسبة إلى الإسلاميين وقفزنا عمداً على طرحه بالنسبة إلى التقدميين الديمقراطيين؛ وذلك لأنه من حيث المضمون الآيديولوجي الإسلاموي لا يوجد ما يغري التقدميين وما يستحق إغناء مشروعهم به. أما من النواحي الأخرى، فإن الخاصية التي تحتاج إليها القوى التقدمية المتمثلة في قوة التنظيم والانضباط الحركي الحزبي، التي تشكل نقطة قوة التنظيمات الإسلامية فإنّها لم تهتم بها مع الأسف ولم تسعَ لاكتسابها، وهي حسب اعتقادنا السبب الأقوى وراء ما يعانيه الحداثيون اليوم من تعثر وتشرذم.
ولكن في مقابل عدم استفادة التقدميين الحداثيين من الإسلاميين فإن الإسلاميين استفادوا من خصومهم في السنوات الأخيرة وكانوا من الدهاء الآيديولوجي ما مكنهم من تسجيل نقاط لصالحهم ومن مصادرة بعض قوة الخطاب الديمقراطي الحداثي. ويبدو لنا أنه من المهم الانتباه إلى هذا المعطى خاصة، لأنه يكشف عن قدرة خاصة في إدارة المعارك الآيديولوجية وفي فهم البيئة الفكرية العامة. وهي قدرة مكتسبة من المعارك والخصومات ذاتها وليست من النسيج البنيوي للتنظيمات الإسلامية، ذلك أنه رغم كونها تنظيمات تدافع عن الثبوتي السلفي الماضوي وقضت عقوداً من نشاطها على هذا النحو، فإنها لجأت إلى نوع من الحراك الفكري لتدافع به عن وجودها.
وإذا أردنا حصر مجالات الاستفادة، فإنه يمكننا التوقف عند نقاط عدّة تشكل مجتمعة تطبيقاً لاستراتيجية سحب البساط من الخصم وتوظيف آليات المزايدة على الخصم في موضوعات وأفكار يعتبرها الخصم التقدمي مشروعه الجوهري والأسلحة التي يضرب بها خصمه الإسلاموي.
إن أول فكرة استفاد منها الإسلاميون من التقدميين هي فكرة الديمقراطية.. هذه الفكرة كانت منبوذة في خطاب التنظيمات الإسلامية ويعتبرونها فكرة غربية وكانوا يدافعون عن البديل الإسلامي لفكرة الديمقراطية.
ولكن عندما تمكنت التنظيمات الإسلامية من القواعد الشعبية أبدت مصالحة كبرى مع فكرة الديمقراطية وأصبحت تطالب بها وتصر عليها وعينها على صناديق الاقتراع وعلى قناعة أنه لا حل غير الدخول في لعبة الديمقراطية للوصول إلى الحكم، بل إن الخطاب الإسلاموي ابتكر صيغاً احتفالية جديدة بفكرة الديمقراطية ومنها ما جاء على لسان زعيم حركة النهضة التونسية السيد راشد الغنوشي حيث استعمل مقولة «الإسلام الديمقراطي».
كما نشير في هذا السياق إلى التجربة المصرية سواء قبل الثورة ووصول «الإخوان» إلى مجلس النواب أو بعد الثورة وبلوغهم سدة الحكم بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك.
المظهر الثاني من استفادة الإسلاميين من القوى الديمقراطية العربية يتمثل في السطو على خطاب الحداثة ومحاولة أسلمتها وتبنيها بعد إنكار عميق رافق نشأة الحركات الإسلامية. وفي هذا الموضوع خاصة وجد الإسلاميون صعوبات وهم يحاولون التعامل بازدواجية وانتقائية مع هروب من الإشكاليات الصدامية لمنظومة الحداثة. لذلك يغلب على توظيف فكر الحداثة ممارسات تتميز بالمسافة والصمت وغض الطرف قدر الإمكان؛ فالحديث عن الحرية والحقوق وفق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ينطويان على الصمت المقصود المعبر وفي لحظات الإحراج يتم اللجوء لسترة نجاة فكرة الخصوصية الثقافية. أيضا تجدر الإشارة إلى أن الخطاب حول الحداثة رغم الحذر فكثيراً ما يستمد بعض قوته من الاستقواء الرمزي بالأنموذج التركي الإردوغاني.
طبعاً تركنا قصداً المظهر الأكبر والجزء المهم من البساط المسحوب إلى خاتمة هذه المقالة: إنه موضوع المرأة قلب المشروع الإسلاموي والعمود الأساسي الذي يستند إليه. فالتحول النوعي في كيفية تعامل الأحزاب الإسلامية مع مسألة المرأة إنما يعد أهم استفادة حصلت للإسلاميين وقاموا فيها بما يشبه المزايدة على القوى التحديثية التي بنت مجدها الآيديولوجي بالانتصار لقضية المرأة. وفي هذه المنطقة ضرب الإسلاميون عصفورين بحجر واحد؛ من جهة كسب المرأة كخزان شعبي في عملية التصويت والاقتراع وأيضاً سد ثغرة لطالما أوجعه بها خصومه؛ وهي تخلفه في تصور دور المرأة وحقوقها ومساواتها مع الرجل.
وأحسن مثال على حسن توظيف مسألة المرأة والتغير في الموقف منها نذكر حركة النهضة التونسية، حيث إنها بعد أن كانت ترفض قبول عضوية النساء غير المحجبات أصبحت ترحب بالمحجبة وغير المحجبة، وأيضاً رشحت غير المحجبات لترأس أهم بلدية في تونس، كما حصل مؤخراً مع السيدة سعاد عبد الرحيم مرشحة حركة النهضة لمنصب شيخ مدينة تونس.
كما صرحت منذ عودتها للنشاط السياسي بعيد الثورة عن قبولها الكامل ببنود مجلة الأحوال الشخصية، إضافة إلى كونها انخرطت في خطاب المساواة وعدم التمايز بين الجنسين وهو انخراط لا بد منه كي تدفع عنها تهمة النظرة الدونية للمرأة.
السؤال الآن: هل «الاستفادات المشار إليها يمكن أن تنفع الإسلاميين إذا كانت (استفادات) شكلية وضرباً من ضروب المناورات الآيديولوجية؟
إذا كانت الإجابة بنعم فإن مزيد التعثر سيصيبها بأكثر مما أصاب القوى التقدمية التي تمتاز بمصداقية الخطاب، ولكنها تفتقد للطرق المؤدية للتأثير الواسع الذي وحده يكسب الأحزاب فعاليتها.