د. كريم عبديان بني سعيد
ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران
TT

أحقاً ستتجاوز إيران «العقوبات بفخر»؟

هذا ما قاله الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في 6 نوفمبر (تشرين الثاني)، أي بعد يوم واحد من إعلان الرئيس دونالد ترمب عن جولة جديدة من العقوبات الأميركية ضد إيران. دعونا نرى مدى جدية هذا الكلام، وهل من الممكن تحقيقه.
من الواضح أن تصريحات روحاني هي أولاً قد تعبر عن موقف سياسي للاستهلاك المحلي، وثانياً قد جاءت رداً على المنافسين في الداخل، وثالثاً قد تكون ناجمة عن الوهم الذي ينتاب روحاني؛ لأنه كيف يريد أن يلتف على العقوبات دون امتلاكه لآليات كفيلة بتحقيق ادعائه؟
خلال السنوات الأخيرة، تم فرض عقوبات على النظام الإيراني بسبب دوره التوسعي والتخريبي في المنطقة، ودعمه للإرهاب والنزاعات الطائفية عبر مشروعاته الميليشياوية. وللالتفاف على العقوبات السابقة، كانت إيران قد أسست شبكة واسعة ومعقدة من الشركات التجارية لشراء السلع والخدمات اللازمة للبقاء على قيد الحياة.
وقد تمكنت هذه الشبكة من تلبية احتياجات البلد من المنتجات الزراعية إلى المواد الغذائية والأسلحة المتطورة، وكذلك مكونات الطائرات والمروحيات، والصواريخ، والآليات الثقيلة، والتكنولوجيا العسكرية والمواد النووية.
لكن كان يجب شراء كل تلك الأدوات والمواد والسلع المذكورة بعشرة أضعاف الأسعار الحقيقية، ومن خلال تغيير أسماء الشركات غير القانونية، وتأسيس شركات وهمية. ومع ذلك، فقد قام الأميركيون بجمع المعلومات والدلائل ضد هذه الشبكة، وبالنهاية تم كشفها والقضاء على معظمها.
ومنذ عام 2008، أنشأت وكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي آي إيه» وبالتعاون مع الشرطة الفيدرالية «إف بي آي» ووكالة المخابرات العسكرية «دي آي إيه»، منظمة استخباراتية جديدة ومستقلة، لمكافحة الإرهاب والتجارة غير المشروعة. وتعمل هذه المنظمة تحت إشراف وزارة الدفاع (البنتاغون)، لغرض جمع المعلومات حول الموارد المفتوحة والعامة. ويقع مركز المنظمة في مبنى مكون من 6 طوابق في ضواحي واشنطن، على بعد 8 أميال من مقر وكالة المخابرات المركزية في لانغلي، وبالمسافة نفسها عن البنتاغون، في شمال فيرجينيا.
ومن أجل تخصيص الميزانية القانونية ورواتب الموظفين، تم تخصيص مبالغ لها من حصة البنتاغون، بقرار من الكونغرس الأميركي. وتهدف المنظمة إلى جمع وتقديم المعلومات المتاحة من مصادر مفتوحة من وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، كمواقع التواصل، ومراكز الدراسات، والمصادر الأكاديمية، والبيانات العلمية، والتكنولوجيا، والكتب، والمنشورات.
وبينما كل الوكالات والمنظمات المخابراتية الأميركية الـ16 لديها مثل هذا المركز، لجمع معلومات من مصادر مفتوحة، فإن المركز الجديد هو عبارة عن «جهاز مستقل» يعمل تحت إشراف مسؤول مدني كبير في مكتب المخابرات العسكرية، مهمته ووظيفته التركيز على خطر إيران وتنظيم «القاعدة»، ويستخدم المئات من المترجمين بالعربية والفارسية، لفحص وتصنيف البيانات والوثائق الأمنية، وترجمتها إلى الإنجليزية.
كما أن هناك متخصصين من المترجمين، وخبراء في الثقافتين العربية والإيرانية، في أعلى درجات السرية، لدى ذلك المركز، الذي يمتلك واحدة من أكبر المكتبات والقواميس والمصادر، لخرائط ثلاثية الأبعاد للأماكن المختلفة في بلدان مثل إيران وغيرها في الشرق الأوسط، مع أجهزة ذكية للترجمة الآلية.
وفي كل طابق من طوابق هذا المبنى السري والمحمي بأدوات أمنية مختلفة، هناك صناديق مشفرة للموظفين لترك هواتفهم فيها طوال اليوم، واستعادتها فقط عند نهاية الدوام اليومي.
وتحتوي الوثائق التي تم جمعها من الشركات الإيرانية على الهويات الكاملة للأفراد والشركات ومعلومات الصفقات، وأنواع وكمية المواد، والأسعار والمشترين والبائعين، وأساليب المعاملات والأوامر والفواتير، ووثائق بنكية ومستندات النقل والشحن بواسطة السفن والمطارات، ورسائل البريد الإلكتروني الخاصة، وقوائم طويلة بهذا الخصوص.
وكشف الباحثون الآلاف من الشركات التي كان الإيرانيون يدفعون لها عشرة أضعاف الأسعار الحقيقية في الأسواق، خلال سنوات العقوبات، وتم صرف مليارات الدولارات لتوفير ما يحتاجه النظام في طهران؛ لكن تفكيك هذه الشبكات والشركات أثقل كاهل النظام الإيراني، والفضل الأكبر يعود لهذا المركز.
لقد قام المركز بالتقليل من نشاطه منذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران، من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في 14 يوليو (تموز) 2015، والذي وقعت عليه أيضاً بقية الدول الكبرى، كالصين وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وكذلك الاتحاد الأوروبي.
وتفاخر الرئيس الإيراني حسن روحاني بالاتفاق، كإنجاز عظيم من صنعه، وأصر على إنهاء كارثة الاستمرار في دفع المبالغ الباهظة بعشرة أضعاف للسلع الأساسية، خلال 36 عاماً من عمر النظام الذي يعيش أسوأ مرحلة من الاختلاسات والفساد والسرقة.
وفور توقيع الاتفاق، دعا روحاني جميع رؤساء الشركات الكبرى إلى طهران، وفي الوقت نفسه جمع وزراءه ورؤساء جميع دوائر الحكومة والمنظمات غير الحكومية، وأمر بحل الشبكات التي كانت تعمل في السوق السوداء لكسر الحصار المفروض على إيران.
ولكن، وقبل أي صفقة، طلبت الشركات الغربية من الإيرانيين ملء استمارات مكونة من 70 صفحة، يجب الالتزام بها من قبل جميع الوزارات الإيرانية. وتتضمن هذه الاستمارات كثيراً من الأسئلة والتفاصيل والقوائم والتصاريح، حول كافة السلع والأدوات والقطع والمواد التي تم شراؤها واستيرادها، خلال الـ36 عاماً الماضية.
وطلبت حكومة روحاني من الوزارات الالتزام بهذه الشروط، وعدم تقديم معلومات كاذبة أو مزيفة، على أمل أن تبرم صفقات تجارية مع الدول الغربية لـمدة 15 عاماً قادمة، دون الحاجة إلى وسطاء. وعلى ما يبدو كان هناك تعاون بين الشركات الغربية لإعداد هذه الاستمارات، وخاصة بين شركتي الطيران «بوينغ» و«إيرباص»، وشركتي النفط «شل» و«توتال»، والشركات العملاقة الأخرى العاملة في مجال الصناعات الرئيسية الأخرى، مثل الطيران، والدفاع، والزراعة، والغذاء، وصناعة السيارات، والمواد الكيماوية، والكهرباء، والإلكترونيات، والطاقة، والنفط، والغاز، وغيرها.
ولكن مع انهيار الشبكة الضخمة التي تم تدميرها بالكامل، والتي كانت تؤمِّن حاجات إيران من المواد التي شملتها العقوبات، فقد خسرت إيران كل تلك الشركات ومواردها.
ومع بدء العقوبات القاسية في 5 نوفمبر 2018، فقد انسحبت كل الشركات الأجنبية من إيران، ومعها قائمة بأسماء وهويات الشركات الوهمية الإيرانية والشركات الوسيطة والسماسرة الدوليين، الذين كانوا يسهلون معاملات إيران، وهذا ما أدى إلى هجوم شديد على روحاني من قبل التجار وأصحاب الشركات، الذين يواجهون حالياً كارثة كبرى.
وعلاوة على ذلك، فقد انخفضت صادرات إيران النفطية، من نحو ثلاثة ملايين برميل يومياً إلى مليون ونصف مليون أو أقل حالياً. والإيرادات من التصدير بهذا الحجم، بالكاد تغطي الإنفاقات الحكومية.
وعلى الرغم من تمديد التراخيص لثمانية بلدان، هي الصين، والهند، وتركيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، وإيطاليا، وتايوان، واليونان، لشراء النفط الإيراني لمدة أقصاها ستة أشهر، فإنه من المقرر أن تنخفض صادرات النفط الإيراني إلى الصفر أو قريب من الصفر.
ويعلم الرئيس ترمب، ووزير خارجيته مايك بومبيو، والممثل الخاص للإدارة الأميركية لشؤون إيران، براين هوك، أن الالتفاف على العقوبات لن يكون أمراً سهلاً كما كان، وأن العقوبات الجديدة تختلف عن سابقاتها؛ حيث شملت 700 مصرف ومؤسسة مالية إيرانية، وتم وضع عشرات الشركات والأفراد على القائمة السوداء من قبل الولايات المتحدة.
وفي ظل تفعيل دور الأجهزة الاستخباراتية المختصة بإيران، وقطع شريان النظام الاقتصادي من خلال حظر تصدير النفط، وتفكيك شبكة طهران للالتفاف على العقوبات، لا يعرف أحد كيف يتفاخر روحاني بأنه يريد أن يتغلب على العقوبات!