سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الزعيم والإنسان: سائق الخنفساء

عام 1994 وصل النائب المنتخب حديثاً، خوسيه موخيكا، إلى مبنى برلمان الأوروغواي، على دراجة نارية أوقفها أمام درج المبنى. فتقدم منه شرطي السير، وسأله: «هل سوف يطول بقاؤك هنا»؟ وأجاب موخيكا: «في صراحة، إنني آمل ذلك».
أصبح اليساري السابق فيما بعد، رئيساً للبلاد عام 2010. وفي هذا الوقت كان قد استبدل دراجة «الفسبا» بسيارة فولكسفاغن قديمة من نوع «الخنفساء»، يتنقل بها من مكتبه في القصر الجمهوري إلى منزله الريفي خارج العاصمة مونتيفيديو، المؤلفة من غرفة نوم وغرفة استقبال.
لم يغير شيئاً في حياته بعد الفوز. لم يشتر بدلة جديدة ولا أثاثاً جديداً ولا ربطة عنق. وطوال الرئاسة ظل يسوق الخنفساء بنفسه، يرافقه حارسان، ويقوم على زيارة بيته حارسان، وكلبته مانويلا، التي فقدت واحداً من قوائمها الأربعة في حادث.
وتبرع موخيكا بالراتب الرئاسي إلى أعمال الخير مستبقياً لنفسه 750 دولاراً، هي مصروفه الشخصي مع زوجته، التي هي عضو في مجلس الشيوخ، وأصبحت نائبة للرئيس بعد انتهاء ولايته. وعندما انتهت الولاية، كانت الأوروغواي تتمتع بأفضل وضع اقتصادي وأمني بين دول المنطقة.
ترك وزير خارجية لبنان الراحل فؤاد نفاع لبنان والسياسة اللبنانية وذهب يتقاعد في الأوروغواي عند أهل زوجته، زبيدة. واعتقدت أن السبب الرئيسي هو اشتداد مرض العينين على زبيدة، بحيث تكون هناك في رعاية أهلها، وبعد سنين التقيت ذلك النقي الشهم في باريس، فقلت له، متى ستعود؟ قال: «الأوروغواي وطننا النهائي ولن نعود، بل سوف نأخذ لك بيتاً قربنا ونسحبك عنوة إلى هناك. وأنت تعرف أنني لا أخدعك».
وبالنسبة إلي، أصبحت الأوروغواي البلد الذي اختاره فؤاد نفاع موطناً. وفي لبنان كان فؤاد نفاع ينتمي إلى كتلة الرئيس فؤاد شهاب. وفؤاد شهاب هو الرئيس الوحيد الذي كان موخيكا يشبهه. كان يقسم راتبه، كقائد جيش، ثم كرئيس جمهورية، إلى ثلاثة أقسام: الأول له، والثاني لعمل الخير، والثالث لتعليم أبناء العرفاء من حراسه.
ترك الجنرال شهاب أرملة شبه معوزة. وروى لي الرئيس إلياس الهراوي، أنه بعد فوزه، ذهب مع زوجته منى لتفقد أحوال الرؤساء السابقين وعائلاتهم. وسأل السيدة شهاب وهما ينهيان الزيارة: «هل من خدمة أستطيع تأديتها لك»؟ فقالت: «لا تشغل بالك كثيراً فخامة الرئيس... إلا إذا كان في إمكان الدولة أن تساعدني في تسديد دين مترتب علي للبقال مجموعه 300 دولار».
أما قبل ذلك أو بعدها، لا أدري. ولكن لاحظت لدى الرئيس الهراوي، الذي كنت أقابله أسبوعياً، «محط كلام» يكرره باستمرار: «يلعن أب الفقر».
إلى اللقاء...