يتعجب كثير من الناس كيف أن ثاني أكبر دولة منتجة للنفط في «أوبك»، بعد السعودية، والرابعة دولياً لا تستطيع تأمين كفايتها من الكهرباء، بل تعاني من نقص فادح، حيث لا تستطيع الشبكة الوطنية تأمين توزيع الكهرباء لأكثر من ثماني ساعات في اليوم، وبخاصة في صيف العراق اللاهب؟!
ويتضاعف هذا العجب لأنّ سكان هذه الدولة، وهم العراقيون، يعانون في الوقت عينه من شحّ شديد في مياه السقي والشرب في الصيف أيضاً، مع أن في بلادهم نهرين عظيمين بروافد عدة، هما دجلة والفرات اللذان يُعزى إليهما الفضل في نشوء وتطور ثلاث من أعظم الحضارات في تاريخ البشرية: السومرية والبابلية والعباسية.
بخلاف غيرهم، العراقيون ليسوا على أي درجة من درجات التعجب، فهم يرون بالعين ويسمعون بالأذن ويدركون بالعقل كيف تتبخر من خزينة دولتهم مليارات الدولارات التي تتدفّق شهرياً من عائدات النفط، فضلاً عن مئات ملايين الدولارات المتأتّية من الجمارك والضرائب وسواهما.
والمعاناة العراقية التي ظلّت تتفاقم في الخمس عشرة سنة المنصرمة لا تقتصر على الكهرباء والماء، فنظام الخدمات العامة (الصحة والتعليم والسكن والنقل والصرف الصحي وسوى ذلك) منهار بالكامل تقريباً، فيما تتجاوز نسبة الفقر 30% والبطالة 20%، وهذا بأجمعه ما يجعل العراقيين يتفجّرون غضباً دورياً، كما هو حاصل الآن.
في كلّ سورات الغضب الشعبي العراقي المتصاعدة، كان شعار «مكافحة الفساد الإداري والمالي» يتقدّم سائر المطالب التي ارتفع سقفها الآن إلى مستوى إجراء تغييرات جذرية سياسية وإدارية لضمان أن يتولّى إدارة الدولة وأجهزتها الاتحادية والمحلية شخصيات كفؤة ونزيهة تعرف كيف تستثمر ثروة العراق المالية الكبيرة في تنمية البلد ورفاه المجتمع ولا تمتدّ أيديها إلى المال العام، فالخراب الحاصل الآن يرجع سببه إلى مدّ الأيدي للمال العام برياحة وسلاسة واطمئنان من دون خشية من حساب وعقاب، ومادّو الأيدي هم قيادات وكوادر في الأحزاب الحاكمة (إسلامية في الغالب) التي توفّر الحماية لهم ولعملياتهم الفاسدة الجارية بعلم القيادات وبإشرافها، ففي عدد من جلسات مساءلة وزراء ومسؤولين تنفيذيين كبار آخرين عقدها مجلس النواب الذي انتهت ولايته منذ خمسة أسابيع، اُفتُضِح وجود «لجان اقتصادية» تُدير عمليات السطو على المال العام. هذه اللجان شكّلتها الأحزاب المتنفّذة في الدولة للعمل مع الوزراء ورؤساء المؤسسات والمديرين العامّين لدوائر الدولة والمحافظين ومجالس المحافظات. ومعلوم أن هذه الوظائف التنفيذية تتقاسمها هذه الأحزاب وفق نظام المحاصصة الذي يُعطي لكل حزب عدداً من المناصب بما يتناسب مع حجم تمثيله في البرلمان الاتحادي وبرلمان إقليم كردستان ومجالس المحافظات. ومتولّو هذه المناصب ملزمون أمام أحزابهم، عبر «اللجان الاقتصادية»، بتقديم أموال تؤخذ في صيغة رشى (عمولات) تدفعها الشركات والمقاولون الذين تُرسى عليهم عقود تنفيذ المشاريع العامة. وفي الغالب تُدفع العمولات الكبيرة (ملايين وعشرات ملايين الدولارات) إلى حسابات شخصية أو بأسماء شركات وهمية خارج العراق. كما
يتقاضى معظم هؤلاء المسؤولين رشى خاصة بهم، فصاروا أصحاب ملايين (أموال وعقارات) في غضون سنوات قليلة، وقد تكشّفت تفاصيل صارخة وصادمة في هذا الخصوص عبر التقارير الدورية لهيئة النزاهة ولجنتي النزاهة والمالية البرلمانيتين، بيد أن الحماية التي توفّرها الأحزاب لهؤلاء الأشخاص أمَّنت للكثير منهم الإفلات من المساءلة والعقاب. وكان من نتائج ذلك أن المئات من المشاريع التنموية المهمة قد تعطّل العمل فيها، فالراشون والمُرتشون، كما بيّنت الوقائع، كثيراً ما يتقاسمون التخصيصات المالية لهذه المشاريع فلا يبقى لأعمال تنفيذها سوى «ملاليم».
الأموال المتحصَّلة بهذه الصورة تستخدمها الأحزاب لتعزيز نفوذها في الدولة بكسب المزيد من الأعضاء والمناصرين ونيل الأصوات في الانتخابات البرلمانية والمحلية. وكانت تلك في الواقع عملية نهب كبيرة، تُعرف شعبياً باسم «الفرهود»، فمن الثابت الآن أن هناك بضعة مئات من مليارات الدولارات من عوائد الدولة لا يوجد ما يشير إلى أوجه صرفها. وقبل وفاته أواخر عام 2015 أعلن رئيس اللجنة المالية البرلمانية السابق، النائب أحمد الجلبي، أن حجم الأموال مجهولة المصير يزيد على 300 مليار دولار، وقدّرتها مصادر أخرى بنحو 500 مليار دولار، ويفيد بعض المعلومات بأن بعض هذه الأموال وجد طريقه إلى إيران التي مسّت حاجتها إلى النقد الأجنبي بعد عقوبات اقتصادية فرضتها عليها الولايات المتحدة ودول أخرى.
الشهر الماضي أفصح البنك المركزي العراقي في تقرير عن أن إجمالي الإيرادات بالعملة الأجنبية خلال السنين 2005 - 2017، بلغت 706.23 مليار دولار أميركي. وبعد ذلك بأيام قليلة صرّحت عضو اللجنة المالية في مجلس النواب السابق ماجدة التميمي، بأن إيرادات العراق منذ 2004 ولغاية منتصف 2018 بلغت 1032 تريليوناً و207 مليارات دينار (نحو 900 مليار دولار). هذان الرقمان الفلكيان لم يلمس العراقيون لهما أثراً إيجابياً في حياتهم، وكثيراً ما يجادل منتقدو الحكومة (الحالية وسابقاتها) بأنها لم تبنِ مصنعاً أو مشروعاً زراعياً أو سدّاً ولم تمدّ طريقاً دولية ولم تُشيد مطاراً دولياً جديداً (باستثناء مطار النجف الذي استحوذت عليه وعلى وارداته الأحزابُ الإسلامية الخمسة التي تهيمن على مجلس محافظة النجف، ولم تتمكن حكومة بغداد من فرض سيطرتها عليه إلا بعد أن اجتاحه المتظاهرون الشهر الماضي طالبين تغيير إدارته الحزبية الفاسدة، وهو ما حصل!). ومن المفارقات الكبرى أن كل المشاريع الاقتصادية والخدمية الكبيرة القائمة الآن هي من تركات الأنظمة السابقة، بل إن حكومات ما بعد 2003 لم تُفلح حتى في ترميم المتهالك من هذه المشاريع.
هذا غيض من فيض الوقائع الصادمة التي تستثير دائماً الغضب العراقي على الطبقة السياسية المتنفّذة وأحزابها وعلى العملية السياسية برمتها، بل لا يوفّر هذا الغضب الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين قادتا عملية ترتيب هذه العملية السياسية ووضعها في أيدي جماعات إسلامية يحلو للمنخرطين في الحركات الاحتجاجية المتعاقبة أن يرفعوا الصوت في وجوهها بهتاف معبّر: «بِاسم الدين باقونا (سرقونا) الحرامية»!
8:32 دقيقه
TT
كيف «بِاسم الدين» تبدّدت عوائد النفط العراقي؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة