فوزية سلامة
TT

البطة

لم أنكر يوما أنني من محبي الأمثال الشعبية التي تختزل حكمة الشعوب في عبارات قصيرة دالة. وأحد هذه الأمثال يقول «خذوا فالكم من عيالكم».
وقد فعلت قبل بضعة أيام. ففي حديث مع ابنة أختي، وهي من حفظة القرآن ومعلميه، ذكرت لي اسم عبد الله بن المبارك، ولم أكن سمعته من قبل، وروت لي قصة شائعة عنه. قالت إنه كان من التابعين، أي أنه لم يعش في زمن النبوة، وإنما عاصر بعض الصحابة. قالت إنه كان رجلا تقيا محبا للعلم يشتغل بالتجارة، وإنه كان يجود بماله على الفقراء على اختلاف حالهم، وإنه كان يخرج للحج كل عام.
وفي إحدى السنوات جمع ماله وأعد المؤن لقافلة الحج، وخرج يسعى للوصول إلى بيت الله الحرام. وبينما هو في بداية الطريق لمح امرأة متشحة بالسواد عاكفة على نتف ريش بطة ميتة. فسألها «لماذا وقد حرم الله أكل الميتة؟»، فقالت له إنها امرأة توفي عنها زوجها وتركها هي وأربع بنات بلا مال ولا طعام ولا عائل، وإن بناتها جائعات، ففكرت أن تأخذ البطة الميتة وتصلحها وتطعم بناتها.
فمسّ الموقف قلب الرجل وقرر أن يتنازل لها عن الدنانير التي كان أعدها للإنفاق أثناء الحج. وإذا به يدفع بالدنانير إلى حجر المرأة قائلا لها «اشتري طعاما طيبا لبناتك».
وبتنازله عن دنانيره تنازل أيضا عن حجة ذلك العام، وعاد إلى بيته حيث اعتكف. ثم خرج بعد انتهاء موسم الحج لكي يستقبل معارفه وجيرانه العائدين من الحج. وفوجئ بأحدهم يحييه ويقول له «رأيتك في حجر إسماعيل، لكني لم أستطع بلوغ موقعك لأسلم عليك». فدهش عبد الله بن المبارك وظن أن الرجل لمح شخصا كثير الشبه به فاختلط عليه الأمر. ومضى في طريقه إلى أن التقى بجار آخر، فسلم عليه، فإذا بالجار يهنئ ابن المبارك بالحج قائلا إنه رآه أثناء الطواف.
وتكرر هذا ثلاث أو أربع مرات، بحيث ضرب الرجل أخماسا بأسداس، لأنه لم يحج فكيف شاهده هؤلاء الأشخاص الذين شاهدوه في أماكن مختلفة أثناء تأدية المناسك؟
عاد إلى بيته واعتكف يوما كاملا، ثم غلبه النعاس فنام. ورأى في منامه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول له «يا ابن المبارك لقد أغثت الملهوف فأمر الله ملكا أن يحج عنك لكي يكتب لك ثواب الحج».
تلك هي القصة التي روتها لي ابنة أختي التي أعتبرها ابنتي، وهي المتبحرة في شؤون الدين والحافظة للقرآن. وقد يتهمني البعض بالسذاجة، لأنني اعتبرت القصة التي جاءت على لسانها فألا وتوجيها ربانيا اختصني به ربي في شهر رمضان لكي أجود بشيء من مالي لإغاثة ملهوف وإطعام فقير وستر مسكين، فصليت شكرا لله. وفي أول فرصة استخدمت الكومبيوتر للبحث عن سيرة ابن المبارك لتأكيد ما روته لي ابنة أختي.
ولعل أكثر ما أثار دهشتي أن القصة مذكورة على أكثر من موقع، وأن من بين التعليقات التي وردت تعليقا من شخص اتهم كاتب القصة بالسطحية، ونهاه عن الترويج لمثل تلك القصص التي يتداولها من يجلسون على المصاطب قطعا للوقت.
رق قلبي لذلك المتفذلك المصاب بالغرور. فقد نسي أن ثقافة العرب هي ثقافة شفهية بالدرجة الأولى تقوم على تبادل المعرفة عبر الرواية والحديث. نسي أن التعليم يبدأ بمعلم جالس على مصطبة وحوله تلاميذ صغار ينصتون إلى من يعلمهم شفهيا. نسي أن الوحي بدأ بتوجيه شفهي من جبريل عليه السلام، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أن «اقرأ باسم ربك الذي خلق».
لو اتهمني قارئ تلك السطور بأنني من حزب المصاطب فأهلا ومرحبا بالمصطبة إن دلتني أو دلتكم على خير نفعله ابتغاء مرضاة الله.