محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

نظرية «الإمعة»

أثارت استغرابي لوحة حائطية في مستشفى بريطاني تقول ما معناه: «لوحظ أن نحو 60 في المائة من المراجعين لا يلتزمون بمواعيدهم الطبية، فإذا اخترت أن تكون أحدهم فإنك ستحرم آخرين بحاجة ماسة لهذا الموعد».
لم أكن كعادتي أفكر مطلقاً في التأخر، ناهيك عن تجاهل موعدي، حتى قرأت هذا الإعلان الغريب وغير الموفق. فقد حرضني بصورة غير مباشرة على عدم الاكتراث إن تخلفت، فالغالبية تفعل ذلك. باختصار الإعلان يتنافى مع نظرية مهمة، وهي «التأثير الاجتماعي» التي أشبعت بحثاً علمياً لكنها غائبة عن حياتنا، إذ تبين أن الناس يتأثرون سلبياً وإيجابياً بسلوكيات الآخرين.
ومن أمثلة التأثير السلبي لسلوكيات الآخرين فينا، ما اكتشفه الباحثون بحسب روبرت سيالديني وزملاؤه، حينما استفزتهم لافتة في حديقة عامة كتب عليها أن نحو 14 طناً من الأخشاب يسرق سنوياً من الحديقة العامة، وجلها من قطع صغيرة يسرقها مرتادو هذا المرفق العام. فقرر الباحثون وضع لوحتين تحثان الناس على عدم سرقة أخشاب من الحديقة: الأولى لم تشر إلى أن آخرين يسرقون، أما الثانية فأشارت إلى أن الناس يسرقون بالفعل. فحينما قورنت هاتان اللوحتان في أوقات مختلفة مع الحالة الطبيعية التي ليست فيها أي رسالة تحذيرية أو تنويهية، تبين أن اللافتة الثانية التي أشارت إلى أن الناس يسرقون قد رفعت السرقة إلى ثلاثة أضعاف. باختصار هم روجوا للسرقة!
وهذا يذكرنا بالخطأ الذي يرتكبه المدير في العمل، حينما يقول أمام جميع الموظفين بأن أعداد المتأخرين عن العمل في ازدياد؛ بدلاً من أن يقول: أولئك القلة نرجو أن يلتزموا بساعات العمل. والأمر نفسه حدث حينما كنّا بصدد تأسيس إحدى جمعيات النفع العام، حينما قلت لمرسل الرسالة: لا تقل: «كثيرون لم يزودونا حتى الآن بالمتطلبات»؛ بل قل: «العدد المحدود الذي لم يزودنا بالمتطلبات، نرجو منهم المسارعة بالرد في أقرب فرصة ممكنة أو قبل تاريخ كذا».
والأمر نفسه يحدث في دور السينما، حينما يرى البعض من حوله لا يحملون بقايا الأطعمة والفشار إلى سلة المهملات بعد انتهاء الفيلم، فإنه يميل إلى تركها مكانه تأسياً بمن حوله. هذا ما يسمى علمياً بـ«التأثير الاجتماعي» السلبي (social proof).
وهذه النظريات يجب أن يستفيد منها متخذو القرارات كالقياديين والمديرين، حتى لا يقعوا في فخ التجارب غير المدروسة السابقة، مثل السقطة التي تعرض لها إعلان أميركي شهير: «لنجعل أميركا جميلة» في حقبة السبعينات، الذي صور أناساً ‏يركبون الحافلة وقد تَرَكُوا وراءهم مخلفاتهم في محطة الحافلات، فلوحظ أن هذا الإعلان قد روج لسلوك سلبي، بدلاً من اللجوء إلى حيلة إبداعية أخرى، أو تحديد الغرامة مثلاً، من دون تنبيه المشاهدين إلى أن العموم يفعل ذلك العمل السلبي.
خلاصة القول: إن علم التأثير في سلوكيات الآخرين يحتاج إلى مجرد اختيار موفق لكلمات أفضل، لمحاولة توجيه الناس نحو السلوك المطلوب، أو بالأحرى إقناعهم بذلك، حتى لا يكون أحدهم إمعة.
[email protected]