سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

اللغة العربية والنهضة الثانية

هل نقف اليوم، نحن العرب، عند مشارف نهضة عربية ثانية شبيهة من حيث توجهاتها وأهدافها بتلك التي عرفها الفكر العربي الإسلامي بين تسعينات القرن التاسع عشر وأربعينات القرن الماضي؟ هل في وجودنا العربي الراهن ما يحمل على المقارنة أو يغري بها على الأقل؟ يذهب المتشائمون منا إلى القول إن عصر النهضة المشار إليه كان بريقا وأملا يدعو، حقا، إلى استرجاع ذكرى «بيت الحكمة» في الزمن الذهبي الجميل، ذكرى العطاء الفكري العظيم في «الأندلس»، غير أن أسباب المقارنة تنعدم في الواقع؛ ذلك أن حلم النهضة العربية قد ضاع بين السيطرة الاستعمارية ومحاولاتها مسخ واجتثاث الشخصية الثقافية العربية الإسلامية، وبين الأخطاء والمحاذير التي وقعت فيها أغلب الحكومات العربية في دولة الاستقلال وفي بناء تلك الدولة تحديدا. ويرى المتفائلون أن حال الفكر العربي الإسلامي المعاصر ينبو عن القياس مع الحال البئيسة التي عاش فيها الفكر العربي الإسلامي طيلة القرون العديدة المتصلة في المرحلة التي نتواضع على نعتها بعصر الانحطاط الذي أناخ بكلكله فأفسد الفكر واللغة وأغلق كافة أبواب الاجتهاد في مجالات الفقه والاجتماع والإبداع على السواء. والحق أن النزعة التشاؤمية، وإن كانت تتذرع في المعتاد بما تعده نظرا واقعيا، تحمل قدرا هائلا من الجهل بالتاريخ البشري وبطبيعة سيره، وبالتالي فهي تقيم بينها وبين الرؤية السليمة جدارا هائلا من المخاوف التي تصرف عن العمل وعن الإقبال على الوجود.. ذلك أن للتاريخ البشري منطقه، كما جعله الله تعالى، فهو يتقدم أحيانا غير قليلة بدافع الجوانب الأكثر سلبية ومدعاة للخوف والخنوع، وبالتالي فهو لا يسير في خط واحد متصل، وهذا من جهة أولى، كما أنه يعمل، من جهة ثانية، بموجب مجموعة من الآليات التي تجعل الإيجاب كامنا في جوف السلب فتقضي بتغيير مجموعة من التجارب السيئة وتصييرها، بفعل نقلة نوعية متى اكتملت شروطها وتوفرت أسبابها، إلى حال جديدة هي عصارة التجارب السابقة ومجاوزة لها في الوقت ذاته. وأحسب أن المفكرين العرب الذين يمتلكون اليوم الجرأة للحديث عن ملامح أو جراثيم نهضة عربية جديدة أو عن «النهضة العربية الثانية»، يقعون على المغزى الذي يحمله هذا الذي نقول عنه إنه منطق التاريخ والآليات الخفية التي يعمل التاريخ بموجبها.
والحق أن دعاة النزعة التشاؤمية في النظر إلى الفكر العربي الإسلامي لا يكسبون شيئا آخر سوى التمسك بالسلاسل والأغلال التي تقيدهم فتمنعهم من الفكر والحركة وتحجب عنهم مجال الرؤية السليمة. والحق أن الحال العربي، وإن كان يحمل من الأسباب ما يدعو حقا إلى الخوف والقلق (القتل والذبح في سوريا مع إرادة إفساد الهوية، والحرب الأهلية المستعرة وغير المعلنة في العراق وليبيا، والعناد البغيض من طرف قوى تصر على التشبث بالأوهام التي يكذبها الواقع كل حين في كل من تونس ومصر...)، فإنه لا يملك أن يحجب أسباب الإيجاب والتفاؤل وإن كانت غير منظورة في الأمد القريب. بموجب منطق التاريخ الذي نتحدث عنه ستتم مجاوزة أشكال السلب نحو الإيجاب، وليس هذا القول قولا رخيصا ولا تفاؤلا ساذجا، لا وليس انصرافا وصمما عن الاستماع إلى واقع ينطق بعكس كل ما نقول وندعي. يصدق اعتقادنا متى جعلنا عالمنا العربي مجالا فسيحا للنظر والتفكير، ومتى أدركنا وجود إنجازات ونتائج ملموسة تحدث قلقا واضطرابا في أسباب النظرة التشاؤمية التي لا تزال تتذرع بمنطق واقعية ربما لم تكن حسب منطق التاريخ كذلك. لا نحسب أن قولنا يكون ساذجا ولا واهما متى جعلنا الفكر والثقافة العربيين المعاصرين أفقا للتفكير (ولست أجد معنى ولا متسعا من القول لتأكيد ما سبق مني القول فيه من هذا المنبر مرة تلو المرة).
نود، في حديثنا اليوم، أن نطرح السؤال المتعلق بالعلاقة الممكنة، الموجودة أو المنتفية، بين أفق النهضة العربية الثانية من جانب أول، وبين واقع اللغة العربية من جانب ثان.. واقع وآفاق العمل بالنسبة للغة الضاد بحسبانها الرافد الأساس للفكر العربي الإسلامي وحجر الزاوية في مستقبل هذه النهضة العربية الثانية.
أول ما يتعين التنويه به في هذا الصدد هو أن النهضة، مطلق النهضة، تستوجب التوفر على رؤية ثقافية واضحة، أو لنقل إن الشرط الأول في النهضة هو تأسيس المشروع الثقافي الواضح بعناصره ومكوناته الأساس. ذاك ما كان عليه الشأن عند رجال «عصر النهضة» في أوروبا القرن الرابع عشر، وما كان عليه الحال في اليابان في «عصر الميجي»، وما كان عليه الأمر بالنسبة لتأسيس الفكر العربي الإسلامي في مرحلتين حاسمتين من تكون ذلك الفكر مما سنشير إليه بعد قليل. في قاعدة أو أساس المشروع الثقافي الشامل وعي باللغة وسعي إلى إيلائها الركن الأساس في المشروع. في مشروع النهضة الأوروبية كان ذلك الركن هو اللغة اللاتينية، لغة للعلم والمعرفة، بعيدا عن اللغات واللهجات المحلية في دول النهضة. وذلك ما كان عليه الحال بالنسبة للفرنسيين في القرن السادس مع ظهور التمايز الثقافي الفرنسي ومع بلوغ اللغة الفرنسية درجة من التطور مكنتها من الاستقلال عن اللغة اللاتينية، وذلك ما وعاه اليابانيون في سعيهم إلى الانفصال عن الأثر الثقافي الصيني.
إذا ما رجعنا إلى المراحل الأولى لتكون الفكر العربي الإسلامي، إلى مرحلة الكتابة والتدوين التي دشنها الأمويون، فنحن نجد حرصا أكيدا على التقعيد للغة العربية نذكر منه حرص الخلفاء والأمراء والوجهاء على توجيه أبنائهم شطرا من تكوينهم صوب البادية العربية طلبا للغة في مظانها الأصلية، في فترة لم يكن النحو العربي فيها قد جرى تقعيده وإرساء أسسه المعرفية.
وإذا ما نظرنا في ما حرص أغلب مفكري العرب في عصر النهضة على مراعاته، فنحن نجد في مقدمة ذلك الدعوة إلى تجديد الدرس اللغوي العربي بكافة روافده ومكوناته. ذلك ما نجده عند الطهطاوي ومحمد عبده، ثم عند جيل تلامذة هذا الأخير تلمذة مباشرة أو فكرية على نحو ما كان عليه الحال في بلدان المغرب العربي (مما لا يتسع المجال للقول فيه).
أما التساؤل عن الاستراتيجية الواجب اعتمادها في أفق النهضة الثانية المأمولة، فذلك حديث آخر.