مايكل سترين
بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

شركات التكنولوجيا العملاقة ومكافحة الاحتكار

تتعرض الشركات التكنولوجية الكبرى للمزيد من التدقيق والمراجعة في الآونة الأخيرة. إذ وجهت الاتهامات إلى شركات عملاقة من شاكلة أمازون، وغوغل، وآبل، وفيسبوك بارتكاب مجموعة متنوعة من الأخطاء: من نشر الأخبار المزيفة، والتضييق على المنافسين المبتكرين، وسحق المتاجر العائلية، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. وذهب بعض النقاد إلى ما هو أبعد من ذلك، داعين إلى تحويل هذه الشركات الكبيرة والقوية إلى مرافق للمنفعة العامة. ودعا البعض الآخر الحكومة إلى تطبيق صلاحيات مكافحة الاحتكار في تفكيك الشركات التكنولوجية الكبرى. مما يثير قدراً لا بأس به من السخافة.
وخلال الخمسين عاماً الماضية، طبقت الحكومة الأميركية أفضل المعايير التي وضعها خبراء الاقتصاد وفقهاء القانون في تعريف السلوكيات المنافية للمنافسة: هل تشكل هذه الشركات تهديداً أو تعمل على تقويض رفاهية المستهلكين على النحو المحدد من قبل الأسعار، وجودة المنتجات والخدمات المقدمة، والخيارات التي يواجهها المستهلكون، والمزايا الاقتصادية للابتكار التي يستفيد المستهلكون منها؟
وهذا هو المعيار السليم. وهناك معيار آخر يمكن استخدامه في إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، وهو يدور بالأساس حول «كلما ازددت توسعاً ازددت قبحاً» - أي الفرضية القائلة بوجوب وضع الشركات الكبيرة والقوية موضع الشك والريبة بسبب النفوذ السياسي والاقتصادي الذي تكتسبه. ولكن هذا المعيار الأكثر ضبابية وغموضاً هو أقل شأناً. إذ إنه يتجاهل الأشياء الجيدة التي تنشأ عن التوسع، بما في ذلك المقدرة على إنتاج المخرجات الأقل تكلفة. كما أنه، أي ذلك المعيار، يدعو إلى سوء الأداء الرقابي. كما أنه يُضعف من التركيز على المزايا والفوائد التي توفرها الأسواق التنافسية للمستهلكين.
وتعتبر الشركات التكنولوجية الكبرى من النعم الجليلة وفقاً إلى معيار رفاهية المستهلكين. فلقد كنت من مستخدمي خدمة (جي - ميل) لما يزيد على عشر سنوات وحتى الآن. وهي خدمة تعمل بكل سلاسة وسهولة. كما أن محرك البحث المرفق جيد للغاية حتى إنه صار يعمل مثل المفكرة الافتراضية، ويسمح لي بإعادة النظر في المراسلات التي مرت عليها بضع سنوات عبر نقرات خفيفة على لوحة المفاتيح. ولم تفرض شركة غوغل، الشركة المُنشئة والمشغلة لخدمة (جي - ميل) أي رسوم من أي نوع لقاء استخدام هذا المنتج الرائع. وهناك شركة أمازون، التي تعصف بالأسعار عصفاً لدرجة أن البعض صار يعتقد أنها تساهم في التقليل من معدل تضخم الأسعار بالنسبة للاقتصاد الأميركي الكلي. كما أن شركة آبل تنتج أكثر الحواسيب ذكاء وأناقة - مع توفير القدرة على الوصول إلى كميات سابقة لا يمكن تصورها من المعلومات والمعرفة - عبر أجهزة خفيفة تحتل جيوبنا.
وإيجازا للقول، ووفقا إلى معيار رفاهية المستهلكين - وعبر توفير مجموعة متنوعة من المنتجات فائقة الجودة، والابتكار، والأسعار المعقولة - فإن الشركات التكنولوجية العملاقة هي أحد أفضل الأشياء التي شهدها الاقتصاد منذ عقود.
ومن الحجج الحاذقة ضد الشركات التكنولوجية العملاقة تلك التي تتعلق بالمستقبل: أجل، يتم طرح العديد من المنتجات المبتكرة والجديدة للغاية مجاناً اليوم. ولكن ما هو التأثير الذي تمثله الشركات التكنولوجية العملاقة على أسعار المستقبل وعلى الابتكار؟
تفترض هذه الحجة أن الشركات التكنولوجية العملاقة تعمل على (خنق) المنافسة اليوم، وأن الغد سوف يسفر عن الابتكار أو خفض الأسعار. بيد أنني لم أقتنع بذلك تماماً. فمن المؤكد أن بعض الأضرار قد تلحق برفاهية المستهلكين في ظل غياب المنتجات التي كان من الممكن وجودها إن شهدت الأسواق المزيد من المنافسة. ولكن لننظر إلى ما يحدث بالفعل في أرض الواقع: توجه الشركات التكنولوجية العملاقة المبالغ المالية الهائلة لصالح الأبحاث والتطوير بهدف الاستمرار في ابتكار وخلق المزيد من المنتجات الجديدة والمحسنة. وبذلك تعتبر هذه الشركات العملاقة من كبريات محفزات الابتكار والإبداع، وليست هناك من إشارة لأي تغيير سيطرأ على هذه التوجهات في المستقبل المنظور.
فهل تحاول الشركات التكنولوجية العملاقة خنق المنافسة في مجال الإعلام والمعلومات؟ من غير المحتمل. فلم يمر وقت طويل عندما كان الخيار الأميركي المتوسط لاستهلاك الأخبار هو الصحيفة الصباحية اليومية وبضع قنوات إخبارية مسائية معدودة. وبفضل غوغل، على سبيل المثال، صار بإمكان المرء كتابة بضع كلمات بسيطة على محرك البحث العالمي كي تظهر أمامه عشرات تلو العشرات من القصص والمقالات الإخبارية التي تتعلق من قريب أو بعيد بالموضوع المختار.
ونظراً لأهمية حجم الشبكة والاستثمارات الأولية، فهل يتجه قطاع التكنولوجيا بصورة طبيعية نحو التركيز؟ إنها من الحجج المعقولة. ولكن ينبغي أن تأخذ في اعتبارها حقيقة أن متصفح (نيت - سكيب) للإنترنت قد انهار في مواجهة متصفح (إنترنت إكسبلورر)، وأن خدمة (هوت - ميل) قد ضاعت في مواجهة (جي - ميل)، وأسفر تراجع (أميركا أون لاين) عن التكهن بقرب انهيار مقدرة (آبل) على الابتكار، وأن (فيسبوك) يعاني من فقدان قاعدة المستخدمين المراهقين بسبب - على حد تعليق صحيفة الغارديان - رقابة الآباء الصارمة.
وبعبارة أخرى: لم تهيمن الشركات الحالية على الأسواق لفترة طويلة، وكانت هناك شركات أخرى قد حازت نصيبها من الأسواق قبلها، ويجب ألا نفترض أن الشركات الحالية سوف تحظى بالهيمنة على الأسواق إلى الأبد.
ومع ذلك، فمن بين المخاوف الأخرى اتجاه الشركات التكنولوجية العملاقة إلى الالتفاف على الشركات الصغيرة الناشئة ومحاولة إخماد الابتكار والإبداع - ومن أبرز الأمثلة استحواذ فيسبوك على (إنستغرام) واستحواذ غوغل على (يوتيوب). ولكن من الممكن للفرصة السانحة لأحد رواد الأعمال الناشئين في إبداع شيء جديد ورائع ثم بيعه إلى الشركات التكنولوجية العملاقة أن تسفر عن تشجيع الابتكار بأكثر من خنقه وإخماده. ووفقاً لمعيار رفاهية المستهلكين، ليس من الواضح ما إذا كان مهماً مَن هو المالك الحقيقي لخدمة (إنستغرام)، سواء كان شركة فيسبوك، أو المساهمين، أو المؤسس الأول للتطبيق.
ودعونا نفترض، على سبيل المناقشة، أن المخطط الرئيسي لشركة أمازون يستهدف السيطرة الكاملة على عالم مبيعات التجزئة - بما في ذلك متاجر البقالة - وذلك عبر فرض الأسعار المنخفضة التي تخنق هوامش الربح لدى المنافسين ومن ثم، وعند نقطة ما في المستقبل، تعاود أمازون رفع الأسعار وتحصد جراء ذلك الأرباح الفلكية الضخمة.
حتى وإن كان ذلك متصوراً، فإن ردة الفعل الرقابية المناسبة سوف تكون الانتظار حتى تراكم المزيد من الأدلة الدامغة على أن أمازون تتعمد إلحاق الأضرار بالمستهلكين وتخنق المنافسة في الأسواق. تمثل المبيعات الإلكترونية عبر الإنترنت نسبة تقل عن 10 في المائة من إجمالي مبيعات التجزئة. في حين تبلغ إيرادات متاجر (وولمارت) الشهيرة أكثر من ضعف أرباح شركة أمازون حتى الآن. وليس الوقت مناسباً أبداً الآن لاستدعاء عملاء مكافحة الاحتكار.
وهذا لا يعني أن الشركات التكنولوجية العملاقة خالية من المخاوف ولا تثير القلق. فهناك حديث دائر بشأن التأثير الذي تشكله شركات الإعلام الاجتماعي، مثل فيسبوك، على الحوار العام وفي داخل نظامنا السياسي نفسه. إذ ينبغي أن يكون مقصدها الأساسي هو المحافظة على حرية التعبير. ولكن لا بدّ من مناقشة قضايا مهمة مثل دور المتصدين والقراصنة، وإفساح المجال أمام المحتوى السياسي، ومقدار المسؤولية التي يملكها فيسبوك بشأن منصته الخاصة. وبالإضافة إلى ذلك، من المعقول أن يساورنا قدر من القلق حول ملكية المستهلكين لبيانات الشبكة الاجتماعية، وتواريخ البحث والمشتريات، وأمن البيانات بشكل عام.
ولكن تفكيك الشركات التكنولوجية العملاقة؟ لن يحصل. لأن ذلك قد يسفر عن الانهيار التام لبعض من أكبر الإنجازات التي حققها الاقتصاد الأميركي حتى اليوم.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»