محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

حقيقة «اللامبالاة» في سلوكياتنا

شهدت إحدى ضواحي نيويورك، عام 1964، حادثة قتل مروعة وغريبة، حينما ركنت امرأة سيارتها على مقربة من منزلها. وبينما هي في طريقها إليه مشياً هاجمها مجرم فطعنها طعنات عدة وسط ذهول نحو 38 شاهداً من المارة والسكان الذين لم يحرك أحد منهم ساكناً!
أثارت قضية الشابة كيتي كنوفس الرأي العام عبر الإعلام الذي أنحى باللائمة على المارة الذين خذلوا تلك المرأة التي فارقت الحياة. وكعادة الباحثين لم يتركوا هذه القضية تمر مرور الكرام، فحاول الباحثان الاجتماعيان بب لاتاني وجون دارلي فهم الدوافع الكامنة وراء هذا السلوك، لأنهما لم يميلا لفرضية وسائل الإعلام، وهي أن «قلة التعاطف»، أو ربما انعدام النخوة والمروءة، كانت وراء سلوك المارة السلبي؛ إذ لم يكلف أحدهم نفسه حتى بالاتصال بالشرطة رغم صراخ الضحية.
أجرى الباحثان تجربتين أصبحتا لاحقاً من أشهر النظريات التي لا يخلو منها كتاب جامعي في علم النفس. التجربة الأولى كانت مبتكرة، حيث تم جلب شخص للتظاهر، في مكان عام، بأن نوبة صرع قد باغتته فيسقط صارخاً على الأرض. فكانت المفاجأة أنه كلما زاد عدد الناس من حول الضحية قلت نسبة من يمد إليه يد العون، وحينما قل عدد الناس زادت نسبة من يساعدونه. فإذا ما كان هناك شخص واحد فقط يشهد الحادثة فإن نسبة المشاركة في إنقاذ الضحية تكون بنسبة 85 في المائة، غير أنه حينما يشهد الموقف خمسة أشخاص تقل نسبة المبادرة في المساعدة إلى نحو الثلث!
والأمر نفسه حدث في تجربة مماثلة حينما ألقيت نقود معدنية وأحياناً أقلام على أرضية أحد المصاعد الكهربائية في محاولة لمعرفة ردود فعل الركاب. وكانت النتيجة مشابهة لدراسة «تمثيلية نوبة الصرع» في شوارع نيويورك. أي كلما زاد عدد الناس أو الشهود قل ميلهم لمساعدتنا والعكس صحيح، وهو ما كشف للعلماء عدم صحة أن الناس بلا مشاعر بل تحركهم أسباب أخرى خافية.
ما يهمني في هذه التجربة، أهمية الباحثين المعتبرين في مجتمعاتنا، حيث إنهم يسهمون في فهم سلوكياتنا، مهما كانت غرابتها، ويجب ألا ننتظر الغرب أن يمن علينا بفتات ما يرميه إلينا من دراسات بين حين وآخر.
كما نستفيد من هذه الدراسة أيضاً، بأن ليس كل ما يقوله الإعلام صحيح. والأسوأ حينما يتخذ مسؤول رفيع قرارات حساسة بناء على تقارير إعلامية. ولكوني قد أمضيت في الصحافة أكثر من عشرين عاماً، وأنشر في الصفحة الأولى، أدرك جيداً كيف تكتب التقارير التي يلوي فيها غير المحترفين أعناق الحقائق لتوجيه التقرير في اتجاه مصلحة ملاك تلك الوسيلة الإعلامية، وهو ما يرفضه الإعلاميون العرب الذين يتحلون بالمهنية وما أكثرهم.
ونتعلم من هذه الدراسة أيضاً على الصعيد الإنساني أنه حينما نحاط بأعداد هائلة من الناس لا يعني بالضرورة أن تلك الأعداد الغفيرة ستهب لنجدتنا حينما نتعرض لمكروه. وهو واقع أليم لم نتعلمه من تقرير هزيل، بل من دراسة عالمية ذائعة الصيت سميت بـ«تأثير المارة» أو «لامبالاة المتفرجين». وما أكثر من يتفرج على المنكوبين في عصرنا.