إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ألف بقرة وبقرة

كم تبدو الأخبار الدولية مثيرة للفزع، بل للسأم، لولا تلك اللمحات الإنسانية التي تجد لها منفذاً مثل غصن أخضر ينبت في جدار عتيق. إن زعيماً نزقاً في كوريا الشمالية يهدد خصومه باستخدام الزر النووي. ويردّ عليه رئيس أميركي بأنه صاحب الزر الأكبر. لكن القضية ليست في استعراض القوى بين واشنطن وبيونغ يانغ وإنما في المناوشات الإيجابية التي تجري، من وقت لآخر، بين الكوريتين. هناك ما يشبه الغزل المكلل بالخفر يأخذ مجراه في الخفاء من الجنوب نحو الشمال، وأحياناً بالعكس، مع شيء من التدلل. إن فيروز تغني «تعا ولا تيجي» وترد عليها أم كلثوم «عزة نفسي منعاني».
وجدت في غرفة الفندق، ذات يوم، تعليمات للسلامة العامة من تلك التي يجدها النزلاء معلقة وراء الباب ولا يعيرون لها التفاتاً. غير أن عبارة بالخط الغليظ أثارت انتباهي: «يمكن أن تسمع صافرة الإنذار في أي لحظة فلا ترتبك. الملجأ جاهز دائماً». كنت أحضر مؤتمراً لـ«اليونيسكو» في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية. وعرفت من المرافق أن خط الهدنة مع كوريا الشمالية لا يبعد عنا سوى 30 كيلومتراً، أي أننا في مرمى مدفعية جيش الشمال. وكان في الغرفة، أيضاً، منشورات لرحلات سياحية داخلية، بينها واحد لزيارة الحدود المنزوعة السلاح والاطلاع على الأنفاق التي تحفرها بيونغ يانغ تمهيداً لغزو سيول بالدبابات. مؤتمر «اليونيسكو» وأطنان الكلام أم زيارة الحدود و«المتحف المضاد للشيوعية»؟
كان القرن العشرون في النزع الأخير. وأخبار الاشتباكات بين الكوريتين في البحر الأصفر تملأ نشرات الأخبار، ومنها أن «غواصات شمالية حاولت اختراق المياه الإقليمية وأوشك حرس السواحل في الجنوبية على اعتقال المتسللين... لكنهم انتحروا». والنصيحة المفيدة هنا أن تصدّق كل ما تنشره جرائد البلد الذي تزوره ولا تحاول الاستفهام.
قال الشماليون إنه كان فريقاً للاستطلاع وأكد الجنوبيون أنه كان كوماندوز للاغتيالات والتخريب. هذا ما سمعناه ونحن نتجول في المتحف المضاد للشيوعية. ولعل مفردة متحف فضفاضة لأنه، في الحقيقة، معرض للمقارنة بين أسلوب الحياة المفترض في كل واحدة من الكوريتين. ماذا يأكل هؤلاء وأي ثياب يرتدون وما هي مناهجهم الدراسية وأي أفلام يشاهدون، وماذا يأكل ويلبس ويدرس ويشاهد أولئك؟ هنا رفاهية وهناك مجاعة. وعلى الزائر أن يهتدي بذكائه إلى الفريق الخاسر.
على خط النار، بالضبط، يدخل السائح قاعة بطول 15 متراً تقريباً، هي ذاتها التي دارت فيها مفاوضات وقف إطلاق النار بين الجانبين. يقع نصف القاعة في الجزء الشمالي ونصفها في الجنوبي. ومن يخطو حتى آخرها يسمع تنبيهاً من الدليل: «أنت تقف في كوريا الشمالية». ويضيف أن كوريا هي الأمة الوحيدة في العالم المقسومة قسمين لا يسمح بالتنقل بينهما. لا يدري الدليل أن كلامه يجرح قلبي لأنني من أمة اعتادت «الساندويتش». عشنا الشاطر والمشطور في فلسطين واليمن ولبنان والعراق، بلدي الذي كان مقسماً، يومها، بخطوط عرض وهمية.
لن يبقى الجدار العتيق أسود قاتماً. لا بد من غصن أخضر يشق الحجر رغم أنوف الأزرار النووية. فالمحاولات جارية حالياً للتقارب بين الكوريتين، وهي ليست الأولى من نوعها. ففي ربيع 1998 زار تشاو جو يونغ، مؤسس شركة «هيونداي» للسيارات كوريا الشمالية وقابل رئيسها يومذاك، كيم جونغ إيل، حاملاً معه هدية قطيعاً من ألف بقرة وبقرة. وكان الملياردير العجوز كان قد هرب من الشمال إلى الجنوب، أوائل الخمسينات، ومعه بقرة وحيدة. وهو قد عاد ليردّ الدين... مع فوائده.