سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

نجمة الصبح

كان أمس يوم ميلاد فيروز. لشاعر ألمانيا هاينريش هاينه قصيدة تقول: «أنا لا أطلب الخلود، لأن كل دقيقة في حياتي مسافة الأبد». كل يوم من فيروز هو في عصرنا خلود الجمال في النفس. وكل عام وأنتِ استعادة الفرح.
هذا العام تأخر الخريف علينا. ومثل كل فصول السنة، نحن نحسبه على روزنامة أغاني فيروز. وظل متأخراً هذا العام رغم صداحها فوق الجبال والأودية والغمام: ورقو الأصفر شهر تحت الشبابيك/ ذكرني وورقو دهب مشغول، ذكرني فيك.
مر شهر أيلول ولم تتلون أوراقه ذهباً. ومرَّ الشهر الذي تلاه ولا ريح على الشجر. وأمس، كأنما على موعد، هطل المطر غزيراً في ميلاد فيروز. لم نعرف بأي سنة احتفلت فيروز. ما من أحد يريد أن يعرف. تركناها وحدها تغني: يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر/ كل أصحابي كبروا واتغير اللي كان/ صارو العمر الماضي، صاروا دهب النسيان.
لكن وطنها وحده لا يكبر. تتأمله نجمة الصبح بعينيها الجميلتين وتتأمل حاله وتتأمل شغبه، وتهتف، مداعبة، معاتبة، متسامحة: «يا وطني بتضلك طفل صغيَّر».
ووطنها لا يكبر ولا يتغير مثل الحكايات. جالس على صخرته والسنون تنساب من حوله في أنهر الضياع وبحار الهجرة. سعادته قصيرة مثل أغانيها، وحزنه طويل مثل حزنها. وعندما تسخر منه الأمم العابرة به وتسأله: من أنت؟ يجيب مغتبطاً: أنا وطن فيروز.
اختلف اللبنانيون (في الماضي وفي المضارع وفي فعل الأمر) حول كل شيء. حول الساحل وحول الجبل وحول المدن وحول الأرز. (خصوصاً) وحول الجغرافيا والتاريخ، وأمير أمرائهم، ونبيل نبلائهم فخر الدين المعني. لكن إذ غنّت فيروز لكل هذه الرموز، غنوا خلفها. طرّزت لهم وطناً من قرميد وياسمين وعطر. ورددوا خلفها جميعاً وهي تنشد في وداعة التضرّع: بيقولو صغيَّر بلدي/ بيقولو يقولو/ شو همّ يقولو.
ليست فيروز صوتاً في الطرب والشجن يقاربها جيل ويباعدها جيل. إنها رفعت اللغة المحكية إلى مرتبة النبل ودللت الفصحى إلى درجة العذوبة. ولم تغنّ للغناء، بل غنت للأوطان الضائعة والشعوب البسيطة وقيامات المقهورين. وكل ذلك بأسلوب رقيق بديع، لا رطانة ولا رتابة ولا غلظة. وهذا هو سرها المكنون. هي ليست مغنية كل الأشياء، بل جماليات الأشياء. وليست سيدة على المسرح، بل سلطانة في الحضور. اليوم أيضاً ذكرى استقلال لبنان. إنها أجمل شيء فيه.