سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

الخطاب الديني وتجديده

ترتفع في العالم العربي، في السنوات القليلة الماضية (وفي البلدان التي شهدت حركة الانتفاض السياسي خاصة)، أصوات تدعو إلى تجديد الخطاب الديني وإلى الحاجة الماسة إلى التجديد. والملاحظ أن دعوة التجديد هذه لا تأتي من المنشغلين بالقضايا الدينية فحسب ولا من الذين تصح نسبتهم في الأحوال كلها إلى مجال الإصلاحية على النحو الذي نعهده عند «زعماء الإصلاح» في عصر النهضة، بل إن الدعوة تأتي أيضا من الذين يرون أن موقعهم المنطقي والطبيعي يوجد خارج دائرة الفكر الديني. يطرح هذا الأمر إشكالا أثرناه قبل سنوات عدة: هل يجوز لمن كان خارج حقل العلوم الدينية وغير ذي معرفة بمجالات أصول الفقه، قليل المعرفة بعلوم الشريعة أو كانت تلك المعرفة تنعدم عنده، أن يخوض في إشكالات التجديد في الدين والحال أن التجديد الديني درجة عالية من مراتب الاجتهاد وإعمال آلياته الفقهية؟ وفي عبارة أخرى يصح التساؤل على النحو التالي: هل يجوز لمن لم يكن حاملا لصفة العالم بأمور الدين والمنتسب إلى فئة العلماء أن يدلي في القضية برأي؟ لا شك أن السؤال (في صيغتيه معا) قد غدا - منذ هذا الحراك الذي لا يزال عند الكثيرين يحمل نعت «الربيع العربي» - ذا أهمية لم تكن له من قبل. لنقل، تأكيدا لرأي عبرنا عنه بكيفيات شتى منذ حلول العام الذي عرف بداية الحراك (2011)، إن التعبير عن الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني في العالم العربي يحمل في طياته إقرارا ضمنيا بالأثر الحاسم للدين في الوجود العربي المعاصر: اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا - وبالتالي ثقافيا في المعنى الواسع الذي تفيده الثقافة. يعجب الكثيرون لهذا الاهتمام فيرى فيه البعض «عودة للديني» قوية (على غرار ما يحدث في الغرب الأوروبي اليوم)، ويرى فيه البعض الآخر أثرا قويا، مباشرا، لسطوة أو انتصار الإسلام السياسي، في حين أن القلة القليلة ترى فيه شعورا بانسداد الأفق في وجه الخطاب الديني وشعورا بضرورة تطويره في الخط الذي سلكه مع الفكر الإصلاحي منذ عصر النهضة. وكل من هذه الآراء أو المواقف الثلاثة تستحق من الدارسين والمهتمين وقفة النظر الفاحص لا من حيث أن مطلب التجديد الديني «ظاهرة» من بين ظواهر أخرى تسترعي الانتباه في الوجود العربي المعاصر بل اعتبارا لقوة الدين وحضوره في الوجدان والعمل العربيين، فلا تزال مختلف أنماط الوعي (الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، الأخلاقي، والثقافي عامة) تنفذ عند الإنسان العربي عبر الدين وتتأثر بمختلف أشكال إدراكه. الرأي عندي أن أقل الآراء الثلاثة المذكورة امتلاكا لأسباب القوة والوجاهة معا هو الأول منها. ذلك أن في المماثلة، التي يسرف البعض في الارتكان إليها، بين مسيرة التاريخ في كل من العالم العربي والغرب الأوروبي ما يحمل على الوقوع في أخطاء كبيرة. ربما اغتنمنا فرصة هذا الحديث لنقول إن أحد أكثرها حضورا في الوعي الثقافي العربي هو ذلك الخطأ الذي يرجع إلى فهم معنى الدين إجمالا وإدراك طبيعة الحضور الديني في الوعي الثقافي العربي تخصيصا. لا يصح الكلام عن «عودة الديني» إلا في وجود يكون الدين فيه قد اختفى أو تضاءل على نحو شديد، وتلك سمة إذا كانت تصدق على أوروبا فإنها ليست كذلك بالنسبة للعالم العربي، فالدين في هذا العالم الأخير ليس في حاجة إلى «العودة» إذ إنه لم يرتحل قط فهو لا يزال حاضرا. وأما الرأي الثاني المتعلق بالشعور عند أهل الدين الذين يوجدون داخل حقل العلوم الدينية الذين يجدون في الفكر الإصلاحي (نسبة إلى النزعات الإصلاحية الإسلامية في عصر النهضة) فهو أمر لا يستوجب استغرابا فليس يحمل على وجوب إعمال العقل الفقهي بالاجتهاد إعمالا يكون مآله المنطقي القول بوجوب التجديد في الدين إلا نظر عميق في الشريعة وأحكامها وصلتها بالحياة المعاصرة. بيد أن دعاة هذا الرأي يظلون في دائرة أهل الاختصاص وهذه، بطبيعتها، لا تتسع فتشمل الفئات الكثيرة وتمس من كانوا خارج دائرة الانشغال الفقهي. يبقى الرأي الثالث الذي يرى في الدعوة إلى التجديد الديني مظهرا قويا من مظاهر قوة «الإسلام السياسي» ومظهرا يعلم على سطوته وانتصاره. هذا الرأي الأخير يحمل على طرح السؤال الواضح التالي: هل في الإمكان حقا إقامة صلة ما بين الدعوة إلى التجديد الديني وبين ما ينعته البعض بسطوة أو انتصار الإسلام السياسي؟
في نهاية الأسبوع المنصرم عقدت مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» مؤتمرها السنوي الثاني وجعلت موضوعه «الخطاب الديني: إشكاليته وتحديث التجديد» وإذ دعيت «مستمعا ومناقشا» لحضور فعاليات اللقاء فقد كانت الفرصة لي سانحة للتفكير في قضية التجديد الديني ليس من خلال العروض المقدمة فحسب بل، أساسا، من متابعة ردود الفعل المثارة وعبر الإنصات إلى مداخلات الشباب: أسئلة واعتراضات وإبداء للرأي بكيفية صريحة، مباشرة، ومختصرة. وأغتنم الفرصة، ثانية، لأنوه بالمؤسسة المذكورة إذ استطاعت - في غضون سنة واحدة - أن تكون ذات حضور متميز في الساحة الثقافية العربية بالنظر لوفرة وتنوع المواضيع التي نظرت فيها وكذا بغنى وجودة إصداراتها (بضعة وخمسون عنوانا). وفي الندوة التي أشير إليها أعجبت، غاية الإعجاب، بالحضور الكثيف للشباب ولكيفية حضوره ومشاركته خاصة مما يذكر - حقا - أن نسبة الشباب في ساكنة العالم العربي تقارب الثلثين، وإنه لمن العبث بالتالي أن يظل المثقف ورجل السياسة والمسؤول في الدولة والنشيط في المجتمع المدني في غفلة عن هذه الحقيقة البسيطة.
في بعض ما استمعت إليه من عروض في الندوة ملامسة للفكرة التي تقضي بوجود صلة ما بين قوة حضور الإسلام السياسي في الساحة الثقافية العربية وبين الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني. بل إن حديث البعض يحمل على الاستنتاج أن الدعوة إلى التجديد في الدين تمد الإسلام السياسي بسلاح يفتقده ومن ثم فإن مقاومة الإسلام السياسي والدعوة إلى تحقق الدولة الحديثة كما يقول البعض أو قيام الدولة المدنية، كما يقول البعض الآخر، يستوجب التنبيه إلى الخطر الضمني الذي يتضمنه حديث الدعوة إلى التجديد في الخطاب الديني. وهم شائع وقضية خاطئة يستوجبان الكشف عنهما، وذلك ما نعد بمحاولته في حديث مقبل.