محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الرأي.. لن يموت

انشغل كثير من المشاركين أمس بمنتدى الإعلام العربي في دبي بالدراسة الاستشرافية للخبير العالمي روس داوسون الذي توقع فيها اختفاء الصحف الورقية تدريجيا بدءا من أميركا عام 2017 ثم أول دولة عربية وهي الإمارات عام 2028، تتبعها السعودية عام 2034. لكن الباحث وغيره نسوا أن انقراض الصحف التقليدية لا يعني غياب الرأي، فالرأي سوف يبقى خالداً ما دام هناك بشر في معترك الحياة تعترضهم تحديات تتطلب آراءً سديدة. وهذا بالضبط ما يفعله كتاب الرأي عندنا ومعهم ملايين كتاب الرأي في العالم. وأرى أن الرأي هو نصف الصحافة.
وبرأيي سيبقى الرأي مهمّا للبشرية لا سيما رأي المتخصصين لأنه في ظل «محنة... وفرة المعلومات» سيكون هناك «صعوبة في اتخاذ القرار»، حسب قول رئيس الوزراء المصري في كلمته الافتتاحية التي كنا نصغي إليها في المنتدى. وسيبقى رأي المتخصصين مهمّا لأن التخصص بطبيعته يرفع احتمالية الإبداع لدى صاحبه الذي أفنى عمره في التعمق بمجال محدد. ونحن نحتاج إلى الرأي المخصص لأنه يرشدنا إلى أفضل التطبيقات بالعالم (best practices)، وهذه مسألة جوهرية في تقديم آراء عملية. فكثير من القياديين في بلداننا يحيطون أنفسهم ببطانة ضعيفة تصور لهم مقترحاتهم بأنها غير مسبوقة. ولو طبقنا مفهوم تفادي إعادة العجلة في بلداننا لتمكنا من التقدم أسرع من حيث انتهى الآخرون.
ولا يشعر المرء بأهمية الرأي السديد إلا حينما يقع في ورطة. وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية حيث نشطت بيوت الاستشارات في العالم الغربي بعد بداية خجولة لها في مطلع القرن العشرين. فبعد الحرب ظهرت حاجة الشركات والمؤسسات العامة إلى سماع آراء المختصين لتطوير منظماتهم والانطلاق بها من جديد. وما بلغته أعظم الخدمات والمنتجات، ومنها هاتفي الذكي الذي أكتب لكم منه مقالي، كان مدفوعا بشتى الآراء المتضادة التي رست في نهاية المطاف على منتج أو خدمة يشار إليها بالبنان.
وهذا ما يجرنا لقضية مهمة وهي الخشية من الرأي الآخر أو محاولات وأده أو تسفيهه. فالفكر الإنساني وسائر اجتهاداتنا قائمة على الآراء، وكلما كانت هناك أفكار أكثر زادت فرصة انتقاء الخيار الأفضل منها. ولذا فإن الإنسان الفطن لا يحارب الرأي مهما كان حادا، فقد يكون ما يسمعه مرآة لتخبطه!
والرأي الذي نحاول وأده لن يموت بطلقة نارية، بل بمقارعة الحجة بالحجة. وهذا ما يجب أن نعلمه أبناءنا حتى ينشأوا على قوة الحجة، ووقود ذلك مزيد من القراءة والتجرد والنقاش وقبول الآخر قولا وفعلا حتى لا يكون أجيالنا ريشة في مهب الريح.
ولنتذكر أن الرأي لن يموت في الصحافة أيضا لأن الصحافة تحلق بجناحي الخبر والرأي مهما كان شكلهما، إلكترونيا أو ورقيا. ولن يموت الرأي من الحياة مهما تقلصت وسائل التعبير، ولنا في ما خطه الفراعنة على جدرانهم خير مثال، وما كتبه أهل الكهف على كهوفهم، وما دونه طلبتنا على جدران المدارس وطاولاتها، وذلك لسبب بسيط هو أن صوت الإنسان لا يموت، قد يخفت قليلا لكنه سرعان ما يجهر من جديد.