غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

بين الرفق بالإنسان والرفق بالأفيال

«دار السلام» عاصمة تنزانيا لا تعرف السلام. هناك حرب مستعرة بين أنصار حقوق الحيوان وحمايته. وقتلة محترفين من قناصة. وصيادين. وتجار جشعين يتاجرون بعاج الأفيال. وفراء الأسود. والنمور. والدببة. والثعالب. والخيول المخططة. والقطط البرية. والشمبانزي. والحيتان. وأسماك القرش المعادية للإنسان. والدولفين الصديق له.
وتمتد ميادين القتال من غابات البرازيل وتنزانيا. وثلوج القطبين. والجزر. والبحيرات. وضفاف الأنهار، إلى البحار. والمحيطات. وفضاءات «الشعوب» المهاجرة من طيور حائرة بين القارات. وهاربة من شتاء قارس. أو صيف ملتهب.
وتراقب هذه الحملة شركات البلاستيك الضخمة التي تعوم مليارات الأطنان من أكياسها على مساحة قارات من المياه. وتنفق مختنقةً بابتلاعها السلاحف والأسماك. فتزيد بقاياها المتعفنة من التلوث بسموم المصانع. ومياه المجاري التي تصبُّ في موانئ المدن المليونية. ويشارك في الرقابة والمتابعة تجار الفراء النسائية الفاخرة التي ارتفع استهلاكها وثمنها مع اتساع «وعي» المرأة بحقوقها.
كذلك هناك المختبرات الطبية والصيدلية التي تجري تجاربها على مئات ألوف القطط والكلاب. وترفض الاكتفاء بالفئران. والثعابين. والعقارب. والحشرات السامة. وتدخل في دائرة القلق شركات السجائر الضخمة التي تجري تجاربها على الكلاب المحاصرة بدخان التبغ، لقياس مدى احتمال رئاتها للسموم. ولطمأنة الإنسان المدمن للتدخين على صحته المهددة.
أما بريجيت باردو التي بلغت الخامسة بعد الثمانين، فهي ما زالت من أنصار الرفق بالحيوان فقط. ومع «الجبهة الوطنية» المعارضة للرفق بالمهاجرين العرب. والسود. والملوَّنين. وتمتلك محمية صغيرة أنموذجية للحيوان، تضم حميرا فرنسية نادرة ذات الأقدام الواطئة.
وسبق لـ«ب. ب» أن نشرت منذ سنوات على حسابها، صورتين إعلانيتين ملونتين على جدران مترو باريس روَّعت بهما ضمير فرنسا. الصورة الأولى لدرج جانبي باريسي تنتشر عليه عشرات القطط والكلاب المنزلية. والصورة الثانية لهذه الحيوانات الأليفة ميتة، وكأنها تغفو على الدرج ذاته، بعد خنقها المتعمد بالغاز السام. فهي ضحية لوفاة أصحابها المتقدمين في السن. أو لأصحابها الذين هجروها في الشوارع، وذهبوا إلى التمتع بإجازة الـ«فكانس» الصيفية مع الزوجة أو عشيقة عابرة، لا ترغب في مصاحبة كلب شديد الفضول. أو لرغبة شركات إنتاج الحيوانات المنزلية للتخلص من «السلع» التي لم يتم بيعها.
لماذا أكتب عن الرفق بالحيوان، فيما يموت الإنسان العربي على الأرض العربية، في الموصل. وتلعفر. والرقة. ودير الزور. والغوطة الشرقية، بقنابل الأعماق. والقنابل العنقودية. وقذائف المدفعية الثقيلة والصاروخية. ويموت أيضاً بوحشية إرهاب «داعش» و«القاعدة» و«جبهة النصرة» التي جعلت منه «درعاً بشرية».
لا أتجاهل الإنسان. إنما أنتهز مناسبة عابرة. مناسبة قتل أحد دعاة الرفق بالحيوان. كان وين لوتر (Wayne Lotter) متوجهاً من مطار «دار السلام» إلى فندقه، عندما اعترضت سيارة الـ«تاكسي» التي تنقله سيارة أخرى. نزل منها رجلان مسلحان. فتح أحدهما باب سيارته. وأمطره الآخر برصاص بندقيته. فتركاه جثة هامدة.
لوتر من جنوب أفريقيا. أحد القلة من البيض الذين ناضلوا في بلده ضد النظام العنصري، من أجل تحرير ملايين السود والملونين. لوتر أب لابنتين. ومؤسس لرابطة «بامز» التي ولدت في عام 2009 للدفاع عن حقوق الحيوان، وخصوصاً الأفيال في غابات تنزانيا ومحمياتها الطبيعية التي يجتاحها القتلة والصيادون المحترفون.
نجح لوتر نجاحاً باهراً. فقد درب القرويين في تنزانيا على حماية الأفيال. وضبط الصيادين. فتم اعتقال 1398 صياداً وتاجراً. لكن الأفيال كانت قد خسرت الحرب. فقد قتل 66 ألف فيل من أصل 109 آلاف فيل منذ عام 2009. بواقع 33 فيلاً كل يوم في تنزانيا وحدها.
الفيل حيوان ضخم لكنه أليف. هادئ الطبع. كسول. يتحرك ببطء. لا يثور لكرامته، إلا إذا تعرض لاستفزاز أو اعتداء. استخدم الفينيقي هانيبال الأفيال في غزو الإمبراطورية الرومانية في عقر دارها بإيطاليا. أخفق هانيبال عندما ماتت الأفيال تحت ثلوج جبال الألب.
يستوطن الفيل أفريقيا السوداء. والهند. وجنوب شرق آسيا. ويستخدم في الحمل. والركوب. والاحتفالات الدينية. وفي تسلية السياح. وعندما دخلت قوات صدام الكويت راح الجنود يطعمون الأفيال في حديقة الحيوان. ويتسلون بمرآها تتعذب بالشفرات الحادة المخبأة بالسندويشات التي قطَّعت أمعاءها.
الإنسان له صوت مدوٍ ضد الظلم. والحرمان. والحصار. والقتل. والجوع. الحيوان لا صوت له سوى ضمير الإنسان. والفيل حيوان اجتماعي مهذب. مؤدب. خجول. يعيش جماعة. عندما يشعر بدنو الأجل. يعتزل. يحفر قبراً ليموت فيه بصمت. ومنذ «تسالي» جنود صدام، تقوم حملة عالمية لإلغاء حدائق الحيوان. فهي عذاب للحيوانات العاشقة للحرية.
عسكرة قتل الحيوان في غابات الأمازون وأفريقيا شبيهة بعسكرة قتل الإنسان المدني في الحروب الدينية والطائفية. التزمت الجيوش النظامية في الحرب العالمية الثانية بالاتفاقات الدولية لمنع استخدام الغازات والجراثيم السامة. لكن مات ربع مليون مدني ياباني فوراً بقنبلتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين. ثم قتلت الإشعاعات بالسرطانات نحو مليون ياباني، على مدى عقود من السنين.
مات في الحرب العالمية الثانية 26 مليون مدني وعسكري روسي. ونحو سبعة ملايين ألماني. ومات الأستراليون بالجملة، نيابة عن أقاربهم الإنجليز. لكن الحروب المدنية والنظامية التي نشبت بعد تلك الحرب ازدادت بشاعة وهولاً. فمات الملايين في حروب البلقان. ورواندا. وبوروندي. والكونغو. والجزائر. وأفغانستان. والعراق. وإيران. ولبنان. وقتل إلى الآن 600 ألف مدني وعسكري سوري، بغازات بشار الكيماوي. وبنادق حسن «حزب الله». وسواطير ميليشيات قاسم سليماني. وعلي خامنئي. ووحشية «داعش» و«النصرة».
بصراحة متناهية، هناك اليوم حرب بين الغرب والإسلاميين المتزمتين. الضحايا عرب. ومسلمون. وأوروبيون. وأميركيون. هذه الحرب «المشروعة» ضد العنف الديني، هي حرب غير متكافئة بين التقنية الغربية المتفوقة جواً وبندقية «داعش» الوحشية. كان بالإمكان التخفيف من هول هذه الحرب اللا إنسانية، لو أن الجيوش النظامية اقتحمت «داعش». ولم تتركها لميليشيات المرتزقة الأكراد الذين يحاصرون. ويقتلون عشرات ألوف المدنيين العرب في الرقة.
مات المتنبي شاعر العرب الأكبر قتلاً بأيد عربية، في صحراء الأنبار، ربما على مقربة من الرمادي العراقية ودير الزور السورية. عيد الأضحى على الأبواب. بأية حال عدت ياعيد؟