تنتهج استراتيجية الأمن الوطني الأميركية التي صدرتِ الشهرَ الماضي منحى جديداً، بتأكيدها على أن الخليج هو المنطقة التي تسعى الولايات المتحدة إلى تعظيم الشراكة معها، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، متجاوزة أوروبا، الحليف التقليدي للولايات المتحدة. ولهذا تميّزت ردود أفعال أوروبا تجاه الاستراتيجية بالصدمة وخيبة الأمل، بسبب ما تراه تخلياً عن الأمن الأوروبي، وتجريحاً لقادتها ومؤسساتها.
وبالمثل انتقدت دول أميركا الجنوبية ما تضمنته الاستراتيجية من إحياء للسياسات الأميركية القديمة التي تفرض الهيمنة عليها، ولا تسمح لأي قوة أخرى بالوجود فيها، وما تقوم به إدارة الرئيس ترمب تنفيذاً لذلك من مهاجمة السفن التي يُشتبه في أنَّها تعمل بتهريب المخدرات، دون اعتبار لسيادة تلك الدول.
أمَّا روسيا والصين فلا شك في أنَّهما تنفستا الصعداء لأنَّ الاستراتيجية الجديدة لا تُشيطنهما كما فعلت استراتيجية بايدن للأمن الوطني التي صدرت عام 2022.
الجديد في الاستراتيجية أنَّها عدّت الشرق الأوسط المنطقة الوحيدة التي ترى فيها مجالاً للتفاؤل، فعلى مدى خمسين عاماً، ركّزت واشنطن على هذه المنطقة؛ لأنها كانت «أهم مزود للطاقة في العالم، ومسرحاً لتنافس القوى العظمى، وصراعات تهدد العالم وتصل أحياناً إلينا». أمَّا اليوم، فقد انتهى اثنان من تلك العوامل، فلم تعد أميركا مستوردة للطاقة، بل أصبحت دولة مُصدرة، وأما التنافس الدولي فقد حُسم لصالح واشنطن حسبما تقول الاستراتيجية، بعد «إحياء تحالفاتنا في الخليج والدول العربية الأخرى وإسرائيل».
ولهذا رأت أن الحقبة التي كان الشرق الأوسط يهيمن خلالها على السياسة الخارجية الأميركية قد انتهت، ليس لأن المنطقة لم تعد مهمة لأميركا، بل لأنها لم تعد مصدراً دائماً للقلاقل كما كانت من قبل، بل أصبحت «مكاناً للشراكة والصداقة والاستثمار».
تعترف الاستراتيجية الأميركية بأن الصراع ما زال هو الديناميكية البارزة في الشرق الأوسط، ولكن إيران التي تصفها بأنها «القوة الأساسية المزعزعة للاستقرار» قد أضعفت، ومع أن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني يظل «شائكاً»، إلا أن ترمب نجح في إيقاف الحرب في غزة، وتحقيق تقدم نحو سلام مستدام، كما قيل.
وهكذا فإنَّ الأسباب التاريخية للتركيز على الشرق الأوسط قد تراجعت، وظهرت أسباب أخرى بدلاً من ذلك، حيث أصبحت المنطقة «مصدراً ووجهة» للاستثمار العالمي في قطاعات جديدة، مثل الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات الدفاع.
خلافاً للمناطق الأخرى من العالم، التي تبدو أميركا متخاصمة معها، تبدو متصالحة مع الشرق الأوسط، حيث العلاقة تعاونية وتشاركية، ولكن الاستراتيجية تحذّر من أن نجاح هذا التعاون يتطلب التخلي عن «أسلوب التنمر الذي سلكته أميركا في السابق مع دول الشرق الأوسط، خصوصاً دول مجلس التعاون، للتخلي عن تقاليدها ونظم حكمها الضاربة في التاريخ». بدلاً من ذلك، فإنَّ إدارة ترمب سوف ترحب بالإصلاحات التي تنبع من الداخل، ولن تحاول فرضها من الخارج، فمفتاح النجاح في علاقات واشنطن مع الشرق الأوسط يأتي من تقبل هذه المنطقة - قادتها ودولها - كما هم، والعمل معاً لتحقيق المصالح المشتركة، مثل حماية موارد الطاقة، وإبقاء مضيق هرمز والبحر الأحمر آمنين، ومحاربة الإرهاب، والتخلي عن شن الحروب التي تسعى إلى تغيير الأنظمة وإعادة بناء الدول.
ويتَّضح من الاستراتيجية أنَّ دول مجلس التعاون ستظل محل تركيز للسياسة الأميركية، وإن تغيرت الأسباب.
فهي مكان لتلاقي المصالح المشتركة، مثل الطاقة، وحماية التجارة الدولية ومحاربة الإرهاب. وعلى وجه الخصوص، يُعوّل ترمب على هذه الدول، باقتصاداتها المتطورة وثرواتها المالية الطائلة، لتكوين شراكات اقتصادية فاعلة تفيد الولايات المتحدة في التنافس الدولي، كما تفيد دول الخليج نفسها، كما تقول الاستراتيجية.
لا تتحدث الاستراتيجية كثيراً عن سياسة ترمب تجاه إسرائيل، ربَّما لتناقضها مع مبادئ الاستراتيجية نفسها، فهي تصف سياسته الخارجية بأنها مدفوعة بتحقيق مصالح الولايات المتحدة (أميركا أولاً)، حتى عندما ذكرت الاتفاقات الإبراهيمية أشارت إلى أن توسعة نطاقها مرهونة بتحقيق المصالح الأميركية.
وتنتقد الاستراتيجية أوروبا لتحميلها أميركا تكاليف الدفاع عن أراضيها ورفضها التصالح مع روسيا. فلماذا لا تطبق هذه المعايير على إسرائيل؟ فهي طفيلية أكثر من أوروبا، لأن واشنطن تمول حروب إسرائيل التي تتعارض مع السياسة الأميركية، مثلما يحدث في سوريا، وتَضر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. سؤال لا تتطرق إليه استراتيجية الأمن الوطني الجديدة، لكن ربَّما في الطبعة الثانية، بعد أن يُحسم الجدل الدائر في أميركا عن صواب هذه السياسة وحكمتها.
