لم يعد السؤال حول قدرة الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل ذا جدوى، وهي الداعم الرئيس لها عسكرياً ومالياً، وتؤمن الغطاء لتل أبيب في المحافل الدولية، بل السؤال اليوم إلى متى ستسمح القوى والنخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأكاديمية المعارضة الكثيرة والفاعلة لبنيامين نتنياهو، بأن يمعن بجنونه الهيستيري واختراع الحروب على أكثر من جبهة، وبات واضحاً من أداء حكومته أنه يهدف إلى توسيع الحرب وإطالة أمدها وتوريط الولايات المتحدة في حرب إقليمية.
مراجعة سريعة لما تقوم به الحكومة الإسرائيلية وما تعلن نيتها القيام به غير اجتثاث «حماس» والقضاء على قادتها، يؤكد أن اليمين المتشدد أضاع البوصلة، بدءاً من الكلام عن إعادة احتلال غزة ودعوة وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى تهجير الفلسطينيين منها، وطرد سكان الضفة الغربية إلى الأردن، واحتلال جنوب لبنان، حسب دعوة الوزير الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان. مواقف أقل ما توصف به هو الهذيان.
الحكومة الإسرائيلية نقلت الحرب إلى مستوى غير مسبوق، جراء استفزاز إيران بعدد من العمليات النوعية التي تجاوزت اغتيال العلماء على أرضها، وصلت حد اتهامها بتفجير مراسم ذكرى قاسم سليماني أسفر عن مئات القتلى والجرحى واهتزاز الأمن داخل إيران، التي طالما حرص نظامها على خوض معاركه عبر حلفائه خارج أراضيه. سبق هذا التفجير اغتيال أحد كبار مستشاري الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي في غارة على إحدى ضواحي دمشق. وتوجت عملياتها باغتيال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي في «حماس»، بواسطة مسيّرة اخترقت ضاحية بيروت الجنوبية معقل «حزب الله»، الذي كان أمينه العام قد أعلن سابقاً: «سمعنا في الأيام الماضية أنهم يخططون لاغتيال قادة في (الجهاد الإسلامي) أو (حماس) أو في الفصائل الفلسطينية خارج فلسطين المحتلة ومنها لبنان. نقول لهذا العدو إنَّ أي اعتداء على أي إنسان في لبنان لن يبقى بدون عقاب، ولن يبقى بدون رد». كل هذه العمليات تعني أن إسرائيل ممعنة في سياسة توسيع الحرب وغير آبهة بالموقف الأميركي الساعي منذ اليوم الأول لحرب غزة لعدم توسيع نطاقها.
في سياق متصل، الحرب في غزة برهان قاطع على حدود العمل العسكري. أكثر من ثلاثة أشهر لم تتمكن إسرائيل من تحقيق اختراق واحد يصب في أهدافها المعلنة. والعجز ينسحب أيضاً على أعمال القرصنة التي يقوم بها الحوثيون في البحر الأحمر وباب المندب وإطلاق الصواريخ على غرار الميليشيات العراقية الحليفة لإيران، حيث تبين أن تأثيرها محدودٌ. وفي هذا السياق قد يكون التردد الأميركي في تجنب الرد القاسي والفعال على اعتداءات الحوثيين وعمليات الميليشيات في سوريا والعراق بهدف تجنب حرب واسعة.
إنما ماذا بشأن إسرائيل التي قد تنجح بتوسيع نطاق الحرب وتأخذ واشنطن إلى حيث لا تريد؟ من يمكنه وضع حد لجنون الحكومة الإسرائيلية المتمادي ومحركه الرئيس هو نتنياهو والزمرة اليمينية المتشددة المحيطة به، الذي ينتظر العجائب أو الحرب الإقليمية التي لا تزال الأطراف الرئيسة تتجنبها؟
التردد الأميركي لعله وعن غير قصد يساعد على المراوحة، لا سيما أنه لا يوجد احتمال واقعي على المدى القريب لنهاية دراماتيكية ومشجعة للصراع توفر الاستقرار والأمل في المستقبل. إن من يعتقد أن إسرائيل، بعد استكمال عملياتها العسكرية للقضاء على حركة «حماس»، حسب ما تعلن، سوف تخرج بشكل كامل من غزة، وأن السلطة الفلسطينية قادرة على تولي زمام الأمور بسرعة وبشكل رسمي، ليس واقعياً. المشكلة أن الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية تفتقران إلى قادة، ويعانيان من حكم غير فعال ومشكلات بنيوية على أكثر من صعيد.
واشنطن تواجه وضعاً معقداً بعد حرب غزة، لأن بقاء إسرائيل في غزة لفترة طويلة، سوف يعرضها لهجمات من جانب من بقي من «حماس» وغيرها من المنظمات وتحديات هائلة في الحفاظ على القانون والنظام. وحتى عندما يتحدث بعض المسؤولين الإسرائيليين عن الخروج من غزة، فإنهم يتحدثون بصراحة عن ضرورة إنشاء «مناطق عازلة» طويلة الأمد، وعن مسؤولية إسرائيل الشاملة عن الأمن. ومن نافل القول إن الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والدول العربية سيرفضون أن يكونوا في خدمة الأمن الإسرائيلي في القطاع.
إلى ذلك يبدو أن نتنياهو يحتفظ بأغلبية مريحة في الكنيست، الذي أقر ميزانية نتنياهو، ما عزز قبضة الائتلاف على السلطة حتى عام 2025. ومن المرجح أن تتمكن الحكومة من البقاء لبعض الوقت في المستقبل، الأمر الذي سيربك واشنطن أكثر، على الرغم من الضغوط لتنحيه من بعض القادة السابقين الذين يتمتعون باحترام كبير في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ولكن إذا رفض القيام بذلك، لا توجد آلية واضحة لإقالته من منصبه على الرغم من استئناف محاكمته.
كما أنه إذا بقي نتنياهو في السلطة من المرجح تدهور الوضع في الضفة الغربية، بما قد يؤدي إلى انتفاضة فلسطينية يحفزها المستوطنون المتطرفون. وإذا حاول جو بايدن إحياء عملية السلام، فمن المرجح أن يؤكد نتنياهو على ما قاله بالفعل لحزب «الليكود»: إنه وحده القادر على وقف إنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
الإدارة الأميركية لديها الخطوط العريضة للتسوية، وباتت معلنة من قبل الرئيس ووزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، إنما الانتقال من القول إلى الفعل أمامه عقبات والحاجة إلى جرأة ومخاطرة وضغوط فاعلة من أجل فكفكة عقد حل الدولتين. سيتعين على الولايات المتحدة أن تساعد في تنسيق العديد من الإجراءات وتذليل العقبات، لأن التكيّف مع وضع ما بعد هذه الحرب لا يحل شيئاً، وربما يهيئ الظروف لحرب أخرى.
ما دامت الخطوط العريضة للحل معلنة ما ينقص للانتقال إلى التنفيذ هو خطة استراتيجية متكاملة بين أميركا والسعودية ومصر والإمارات والأردن لحماية أمن المنطقة وتنميتها بالتوازي مع الشروع في حل الدولتين.
هذا التكامل العربي الأميركي في زمن الجنون الإسرائيلي هو الرافعة الضرورية لحل الدولتين والسلام الدائم ودونه تبقى إيران الرابحة في السياسة بفعل استراتيجيتها المصممة على اقتلاع أميركا من المنطقة، وتليها إسرائيل، والشروع في إكمال المشروع النووي، وتمكينها في أماكن وجودها في الدول العربية عبر البيئات المحلية الحليفة ما يثبتها لاعباً رئيساً في الإقليم.